بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 17 ديسمبر 2012

من أقطاب التصوف في موريتانيا ...."الشيخ سيدي محمد ولد امني "


التصوف نزعة إنسانية، ظهرت عبر تاريخنا الإسلامي ، وهو يعبر عن شوق الروح إلى التطهر، ورغبتها في الاستعلاء علي قيود المادة ، وسعيها الدائم إلى تحقيق مستويات عليا من الصفاء الروحى والكمال الأخلاقى تقربا للخالق. ولم يكن اهل هذه البلاد الشنقيطية، استثناء في هذا المجال، فقد ظهر التصوف لديهم مثلما ظهر لدى بقية الأقطار العربية والإسلامية، بل انه كان أكثر تأثيرا في خدمة الإسلام واتساعه تاريخيا في منطقة غرب إفريقيا. وقد دخلت الحركة الصوفية إلى موريتانيا ابتداء من القرن 11هجري، فظهرت زوايا دينية عديدة، مارست سلطة روحية مؤثرة في المجتمع، ومن أكثر هذه الحركات الصوفية انتشارا في بلادنا، الطريقة القادرية نسبة إلي الشيخ عبد القادر الجيلاني المولود سنة 471هـ (1077م)، والتي اخذ بها الكثير من مشايخ التصوف، في مقدمتهم الشيخ سيدي المختار الكنتي والشيخ سديا والشيخ ماء العينين...

والشيخ القاضي الذي تتلمذ عليه الشيخ سيدي محمد ولد امني - موضوع بحثنا- ، بتوجيه من الشيخ سيدي المختار الكنتي الذي كان الشيخ ولد امني يحاول الالتحاق به في منظقة ازواد.
وبما أن الكثير من التراث الديني والثقافي لهذا الرمز الديني المشهود له بالعلم والصلاح والتقي قد تعرض للضياع والتلف، أو ما يزال في مخطوطات حبيسة في بعض المكتبات الخصوصية أو لدي بعض الرواة ممن يصعب الوصول إليه، وهو ما كان له تأثير سلبي حول عدم نشر الكثير من حياة هذا الشيخ الذي يعد من أقطاب التصوف والصلاح في موريتانيا. لكنه وعلي الرغم من ذلك فقد اصدر قبل سنوات قليلة كل من الأستاذين الخليفة ولد جار الله ومحمد الأمين ولد محمدو مؤلفين منفصلين عن حياة الشيخ سيدي محمد ولد امني، مما مكن من الحصول علي معلومات أولية غاية في الأهمية في هذا المجال، فلهم جزيل الشكر والامتنان لما بذلوه من جهد جهيد سبيلا لنفض غبار السنين والأيام عن تراث و مآثر هذا الشيخ الجليل.
مولد الشيخ ونشأته:
ولد الشيخ سيدي محمد ولد امني من أبوين كريمين مشهود لهما بعزة الاصل والكرم، فابوه احمد الملقب امني ولد الطالب محمد، أما أمه فهي فريدة عقدها ونفيسة زمانها المشهود لها بالعفة والطهر والكرم والصلاح مريم بنت أب تنتمي لبيت من بيوتات قبيلة "تنواجيو" وذلك حوالي سنة1170 هجرية، وقد نشا الشيخ سيدي محمد يتيما في وسط اجتماعي، يسوده العلم والورع والزهد والتقي، في كنف والدته وأخيه الأكبر من جهة الأب الملقب ب"امني"، ويمتد نسب الشيخ سيدي محمد ولد امني إلي إبراهيم الأموي نسبة إلي بني أمية، حسب أدق الروايات التاريخية وأكثرها تواترا لدي المؤرخين المعاصرين في مقدمتهم المؤرخ الموريتاني الشهير المختار ولد حامدن، الذي أكد انتسابه لقبيلة"مدلش" والتي تعني مجلس العلم، وهي القبيلة التي تمتد أصولها لبني أمية.
حفظ الشيخ سيدي محمد القرءان في سن مبكرة من صباه، ودرس متون النحو والفقه واللغة قبل أن يرحل عن مناكب الحي لطلب المزيد من العلم، وقد ظهرت عليه علامات الموهبة والنبوغ في الصغر،يقول السيد محمد الأمين ولد محمدو في دراسته التي أنجزها عن تاريخه:" فاتصل بداية بابن لامين السملالي وخدمه طويلا حتي استكمل ما لديه من أنواع العلوم...، وبعد ذلك ارتحل إلي آل محمد سالم ومكث عندهم سنين عديدة إلي أن ارتوي من العلوم أصولا وفروعا ومنطقا وبيانا حتي تفقه في شتي أنواع العلوم، فعاد إلي موطنه وباشر العبادة والتنسك والاعتكاف في الخلاء وتعلقت روحه بالشيخ سيدي المختار الكنتي بازواد، لكنهما لم يلتقيا بشكل مباشر" ويضيف الباحث محمد الأمين ولد محمدو:" لقد تفقه الشيخ سيد محمد في جميع العلوم حتي بلغ درجة الاجتهاد، وقد اجتهد بالفعل في مسائل فقهية عويصة منها علي سبيل المثال مسالة الحبس" ويلفت الأستاذ ولد محمدو الانتباه في دراسته عن الشيخ أن الذي منعه من التأليف هو ما جسده في مقولته المشهورة:"نحن قوم شغلنا إصلاح أفئدتنا عن التأليف وإصلاح ألسنتنا"، فالشيخ كما هو واضح قد انشغل بالمراقبة والمشاهدة عن كل شيئ ووجد في ذلك المقام من المتعة ما جعله مشدودا إليه، لا يقدر الالتفات إلي سواه...، ومع ذلك ومما يدل علي رسوخ قدمه في الفقه أن ارتضاه الشيخ القاضي لتعليم أبنائه علوم الفقه ومتون العلوم الشرعية في ذلك العهد".
أخلاقه وكرمه:
عرف الشيخ ولد امني منذ صغره بمميزات طيبة وأخلاق عالية كالجود والورع والصلاح والزهد في الدنيا، وهي نفسها الصفات التي ذاع بها صيته في الكثير من نواحي القطر الموريتاني، وخصوصا في المناطق التي عاش فيها أكثر مع مجموعته مابين منطقي لبراكنه وتكانت يقول فيه الشاعر محمد عبد الله ولد أعبيد الرحمن من احدي قصائد قد مدحه بها:
ما لغبن إلا لقوم صاحبــوه لقــــــد    انقي قلوبهم من رين كل صـدا
قات القلوب وأجساد الانام فمـــــن    قد أمه قات منه القلب والجسدا
وامدح بنيه بنات الفضـــــل إنـهـم    أهـــــلا لذلك لا تدع منهم أحدا
بنوا على الرفع إن ناديت واحدهم    فأرفعه قد نال رفعا قبل كل ندا
وثق إذا جئتهم تبغ الهــــدى بهدى    وثق إذا جئتهم تبغي الندى بندا
إلي أن يقول:
وذا الذي بدالي من مفاخرهم      هو الذي لجميع العالمين بدا
فسأل بأخبارهم من كان ساكنهم   لا بل فسأل ذا الورى من أصدقاء وعدا
قوم غداة الندى الجم الغفير وإن  دعوتهم للخنا قلوا إذن عددا
وكان الشيخ ولد أمني كما يروى، يقسم أمواله والهدايا التي تهدى إليه من بعض أمراء البلاد وغيرهم، على المحتاجين، وينسب إليه قوله ردا على بعض من اعترضوا على كثرة بذله وعطائه للناس حتى لم يترك لنفسه شيئا:
حد أعط جابر غبطَ      حد أحكم يتنــــدم
رشيد ألا حد أعــطَ      سفيه ألا حد أحكم
وقوله:
آنَ رزق ماه أمغطِ     ذ الجابر من كافينِ
أنتم آنَ من نعــــطِ     وإتـم المول يعطينِ

وكان حرما آمنا في ذلك العهد الذي كثرت فيه الغارات والفتن بين القبائل، فوفد إليه الناس وأختاروا جواره لينهلوا من معين فيضه المنساب ، ثم لينشدوا الحماية والأمن في جواره المهاب، يقول الشاعر ولد أعبيد الرحمن في قصيدته السابقة:

هم الأباة أبات الضيم جارهـــــم       لم يخش عدوان عاد إن بغى وعدا
فاليعتمد كل واه ماله عــــــــــمد      علــــــــــــيهم لم يجد أمثالهم عـمدا
فاصحب ألئك تسعد ان صحبتهم      من صاحب السعدا اهل الهدي سعدا

ومن توسلات الشيخ ولد أمني قوله:
توسلت للمولى بجاه نبــــــــــيه       والآل والصحب الغطارفة الغـر
ومن سل سيفا في حنين مجاهدا      وخرم أهل الشرك في ملتقى بدر
وبالطائفين البيت شعثا وجوههم      وبالصائمين القائمين الليل بالذكر
بهم قد دعوت الله يمحو خطيئتي     ويصفح عما قد جنيت من الوزر
إلي آخر القصيدة

مكانته العلمية
ويقول محمد الأمين ولد محمدو في كتابه عن الشيخ:"..على الرغم أن الشيخ لم يكن الرجل الوحيد الذي يتمتع بالعلم ورسوخ القدم في الصوفية آنذاك، إذ كان هناك علماء ومشايخ أجلاء مثل سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم، والمختار ولد بونه والشيخ سيديا ولد الهيبة والشيخ القاضي والشيخ ماء العينين والشيخ المصطف ولد حمادي..إلا أن هؤلاء جميعا على الرغم مما وصلوا إليه كانوا يغبطون للشيخ سيدي محمد المكانة التي رزقه الله إياها، من ترويض للنفس ودوام المشاهدة والعبادة وأتباع السنة، الأمر الذي جعل سلوكه خارقا للعادة من كرامات وكشف واستجابة دعوات".
ومما يروي عنه انه انه رفض هدايا كبيرة قدمها له المستعمر الفرنسي في بداية استكشافاته وتمهيده لحكم البلاد، وردد بتلك المناسبة القول المعروف: تجبل القلوب علي حب من احسن اليها، وكان الفرنسيون قد اوصلوا الي محلته كميات من المؤن الغذائية، فما كان منه الا ان رفض استلامها.
وفاتــــــــــه:
وعن وفاته يقول ولد محمدو في كتابه انه على إثر وصية للشيخ تم نقله إلي المكان الذي كان يتعبد فيه، وهو على ربوة "التومية"غرب مدينة مقطع لحجار حاليا ب7كلم، حيث تم دفنه هنالك، ومن الذين رثوا الشيخ ولد أمني، الشيخ أحمد ولد آدبه ومحمد أحمد ولد الطلبة، وتلميذه محمد ولد بي الجكني الذي يقول في ذلك:

برمل الغضــــى للخـود دور دوارس       عفتها الذواري بعدنا والروامس
كأن لم يذق شهد الصبا في ظلالـــــها       فتو ولم يدرس بها العـلم دارس
ولم تتهادى ضحوة في عرصـــــــاتها      على مهل هيف كعــــاب أوانس
فدع ذا وعدي القول في من تواضعت      لهيبته من هام الرجال القـــلانس
تواضع إجلالا لعزة قــــــــــــــــــدره       له فوق هام العارفين الطـــنافس
تربى بثوب الزهد طـــــــــــــفلا وإنه       لثوب المعالي والمـــهابة لا بس
يضيق مجال القول عن حصر مدحه        ولن يسع الإحصاء منه القراطس
فأقصى أمتداح الأكرمين مذمـــــــــة        لدى مدحه في حقه وخـــــسائس
يعيش الندى ما عشت ياشيخ سالمــا         ويذهب إن واراك في الرمس رامس
تزايد في اللأوى ندى وجلالـــــــــة         تزاد إذا التفت عليك المـــــــجالس
فكم خائف جللت أمنا وعصمــــــــة        وكم غشى من معروف كفيك يائس
وكم جاهل علما كسوت وكم طوت         إليك عراض البيد بزل درافــــــس.
بقلم/ سيدي محمد ولد محفوظ

هناك 26 تعليقًا:

  1. أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة ] أي اعلم هذه المسألة العظيمة واجعلها في ذاكرتك واجعلها في اهتمامك دائمًا وأبدًا وهي « أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة » وليس هو إفراد الله بالربوبية فإن هذا أقرَّ به المشركون ولم يكونوا موحّدين لأنهم لم يفردوا الله بالعبادة، فإقرارهم بتوحيد الربوبية ليس هو التوحيد المطلوب وإنما توحيد الربوبية دليل على توحيد الألوهية ولازم له فمن أقر بتوحيد الربوبية لزمه أن يقر بتوحيد الألوهية والله تعالى يذكر في القرآن في كثير من الآيات توحيد الربوبية دليلاً على توحيد الألوهية كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }(1) هذا هو توحيد الربوبية وهو دليل توحيد الألوهية، فأقام سبحانه وتعالى الحجة عليهم فيما أنكروه من توحيد الألوهية بما اعترفوا به من توحيد الربوبية ليلزمهم بذلك.
    حيث قال لهم كيف تعترفون أنه هو الخالق الرازق المحيي المميت وأنه لا شريك له في ذلك ثم تشركون في عبادته. أما الذين يقولون إن التوحيد هو الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت... إلخ فهم غالطون غلطًا فاحشًا، ولم يأتوا بالتوحيد المطلوب الذي دعت إليه الرسل. وعلى هذا المنهج الباطل أغلب عقائد المتكلمين التي تدرس الآن في كثير من المدارس الإسلامية. وقصد الشيخ رحمه الله بهذا التعريف هو الرد على هؤلاء الذين ركّزوا على توحيد الربوبية وتركوا توحيد الألوهية، فهذه أول شبهة وهي: أنهم جعلوا توحيد الربوبية هو التوحيد المطلوب، وأن من أفرد الله به فهو الموحّد وألّفوا كتبهم فيه وبنوا منهجهم عليه وصرفوا همهم إلى تحقيقه.


    (1) الفاتحة: 1-2
    (2) انظر صحيح الإمام البخاري 4/402 كتاب الجهاد باب دعاء النبي إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله وقوله تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ } إلى آخر الآية. وفي الفتح 6/109، وانظر تفاصيل ذلك في زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم 3/688-696، ذكر هديه في مكاتباته إلى الملوك وغيرهم.
    ==============================================================================================================================================================================
    [ وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده ] فالرسل كلهم ما طلبوا من النّاس أن يقرروا بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت لأنهم معترفون بهذا وإنما طالبوا الأمم بإفراد الله بالعبادة. قال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ }(2) ما قال أن يقروا بأن الله هو الرب لأنهم مقرون بهذا بل قال: { اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } أي اتركوا الشرك بالله عز وجل في الألوهية.
    .

    ردحذف
  2. وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ }(3) ما قال أنه لا رب سواي ولا خالق إلا أنا، بل قال سبحانه: { أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ } أي لا معبود بحق سواي.
    هذا الذي بعث به الله الرسل، ما بعث الرسل لتقرير توحيد الربوبية لأن هذا موجود لكنه لا يكفي بل بعثهم لتوحيد الألوهية الذي هو إفراد الله تعالى بالعبادة وهو دين الرسل كلهم من أوَّلهم إلى آخرهم.
    [ فأوّلهم نوح عليه السَّلام ] كما قال الله سبحانه وتعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ }(4) فدلّت الآية الكريمة على أن أول الرسل هو نوح عليه الصَّلاة والسَّلام، فنوح هو أول رسول بعد حدوث الشرك في الأرض، وتتابعت بعده الرسل على هذا المنهج الرباني وآخرهم محمد r وهو خاتمهم ولا نبي بعده إلى أن تقوم السَّاعة قال الله سبحانه وتعالى: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ }(1) وقال r : « أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي »(2) فهو آخر الرسل عليهم الصّلاة والسَّلام وآخر الأنبياء لأن كل رسول نبي فلا يبعث بعده لا رسول ولا نبي فمن اعتقد أنه يبعث بعده رسول أو نبي فهو كافر قال r : « وسيخرج بعدي كذابون ثلاثون كل منهم يدعي أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي » فمن لم يعتقد ختم الرسالة بمحمد r وأجاز أن يبعث بعده نبي فهو كافر بالله عز وجل مكذب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين.
    [ أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين ] الغلو هو مجاوزة الحد. والغلو في الصَّالحين هو اعتقاد أنهم ينفعون أو يضرون من دون الله، وود إلخ هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ماتوا في عام واحد، فحزن قومهم عليهم حزنًا شديدًا فجاء الشيطان إليهم وقال لهم: صوّروا صورهم وانصبوها على مجالسهم من أجل أن تتذكروا أحوالهم فتنشطوا على العبادة؛ جاءهم عن طريق النصيحة وهو يريد لهم الهلاك فخدعهم بهذه الحيلة واعتبروا هذه وسيلة صحيحة لأنها تنشِّط على العبادة، فهذا فيه التحذير من فتنة الصور وفتنة الغلو في الصالحين، وهؤلاء نظروا لمصلحة جزئية ولم ينتبهوا لما يترتب عليها من المفاسد فالإنسان لا ينظر إلى المصلحة الجزئية وينسى المضار العظيمة التي تترتب عليها في المستقبل. ثم أهلك قوم نوح بالطوفان فاندرست هذه الأصنام إلى أن جاء عهد الطاغية وهو ملك من ملوك العرب يقال له عمرو بن لحي الخزاعي، وكان له سلطان على الحجاز وكان في أول أمره رجلاً ناسكًا على دين قومه ولكن ذهب إلى الشام للعلاج، فوجد أن أهل الشام يعبدون الأصنام فدخل في فكره هذا الشيء فجاء إلى أهل الحجاز والجزيرة فدعاهم إلى الشرك وجاء الشيطان فأرشده إلى مواطن الأصنام التي كانت تعبد عند قوم نوح والتي سفى(3) عليها الرمل بعد الطوفان، فحفرها ونقَّب عنها فاستخرجها ووزعها على أحياء العرب فانتشر الشرك من ذلك الوقت. وكانت هذه الأصنام الموروثة عن قوم نوح هي أكبر الأصنام وإلا فلهم أصنام كثيرة حتى إنه كان حول الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستون صنمًا اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى هي أكبر أصنامهم[« ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر » ](4) [ وآخر الرسل محمد r وهو الذي كسر صور هؤلاء الصَّالحين ] كانت حال العرب الدينية قبل بعث النبي محمد r هي الوثنية ثم بعث الله نبيه محمدًا r بملة إبراهيم الحنيفية السمحة ودعاهم إلى التوحيد بمكة وبقي ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى التوحيد بمكة وبقي ثلاثة عشرة سنة يدعوهم إلى التوحيد وينكر عليهم عبادة الأصنام. فاستجاب له من

    ردحذف
  3. أراد الله له الهداية من الصَّحابة الذين أسلموا معه في مكة. ثم إن الله أذن لهم بالهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة وهاجر النبي r إلى المدينة. واجتمع حوله المهاجرون والأنصار وكوّن جيوش التوحيد وصاروا يغزون المشركين.. إلى أن جاء في السنة الثامنة من الهجرة إلى مكة فاتحًا وصارت مكة تحت سلطة الرسول r وعند ذلك كسر هذه الأصنام التي حول الكعبة وغسل الصور التي في جوف الكعبة، وأرسل إلى الأصنام التي حول مكة (اللات والعزى ومناة) من الصَّحابة من كسرها ومنها صور هؤلاء الصَّالحين من قوم نوح وانتشر التوحيد واندحر الشرك ولله الحمد.
    وهذا معنى قول الشيخ – رحمه الله – (كسر صور هؤلاء الصَّالحين) وذلك يوم فتح مكة وطهّر الله به حرمه الشريف من هذه الأصنام.
    وامتد التوحيد من بعثته r وعهد الخلفاء الراشدين وعهد القرون المفضلة كلها خاليًا من الشرك فلما انتهت القرون المفضلة انتشر التصوّف والتشَيُّع وعند ذلك حدث الشرك في الأمة بعبادة القبور والأضرحة وتقديس الأولياء والصالحين إلى وقتنا هذا، وهذا الشرك موجود في الأمة ولكن يقيّض الله جل وعلا من يقيم الحجة على العباد من الدعاة المخلصين، ويهدي الله على أيديهم من أراد الله هدايته.
    وهكذا ينبغي ويجب على طلبة العلم والدعاة أن يهتموا بهذا الأمر وأن يجعلوا الدعوة للتوحيد وإنكار الشرك ودحض الشبهات من أولويات دعوتم فهذا هو الواجب وهذه دعوة الرسل عليهم الصّلاة والسّلام، لأن كل أمر يهون دون الشرك، فما دام الشرك موجودًا فكيف تنكر الأمور الأخرى! لابد أن نبدأ بإنكار الشرك أولاً ونخلّص المسلمين من هذه العقائد الجاهلية ونبيّن لهم بالحجة والبرهان وبالجهاد في سبيل الله


    (2) النحل:36
    (3) الأنبياء: 25
    (4) النساء: 163
    (1) الأحزاب: 40
    (2) رواه الترمذي في سننه بهذا اللفظ 6/368، 369 (34) كتاب الفتن (43) باب لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون حديث رقم 220 من حديث ثوبان رضي الله عنه. وانظر صحيح الإمام البخاري 4/162، 163، وصحيح مسلم 4/1791، ومسند الإمام أحمد 2/398 حديث رقم 9157، وسنن أبي داود 4/95، وسنن الدارمي 1/40.
    (3) سفت الريح التراب تسفيه: ذَرَتْهُ، أو حَمَلتْه. انظر القاموس المحيط ص 1671 مادة «سفت».
    (4) انظر صحيح الإمام البخاري 6/73 من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه، كتاب التفسير باب ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا (إنا أرسلنا) بنحوه

    ردحذف
  4. بالحجة والبرهان وبالجهاد في سبيل الله إذا أمكن ذلك حتى تعود الحنيفية إلى المسلمين كل بحسب استطاعته ومقدرته في كل مكان وزمان. يجب على الدعاة ألا يغفلوا عن هذا الأمر ويهتموا بأمورٍ أُخرى ويبذلوا جهودهم فيها ولا يغطوا أعينهم عن واقع الناس الواقعين في الشرك وعبادة الأضرحة واستيلاء الخُرافيين وطواغيت الصوفية على عقول الناس. هذا أمر لا يجوز السُّكوت عليه وكل دعوة لا تتجه للنهي عنه فهي دعوة ناقصة أو دعوة غير صالحة أو دعوة غير مثمرة.
    كما إنه يجب أن يعلم أن الإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي ولا ينفع إلا إذا كان معه الإقرار بتوحيد الألوهية وتحقيقه قولاً وعملاً واعتقادًا، وأنّ المشركين الذين بعث إليهم نبينا محمد r كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ولم ينفعهم إقرارهم به لما كانوا جاحدين لتوحيد الألوهية.
    [ أرسله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا. ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله. يقولون نريد منهم التقرب إلى الله. ونريد شفاعتهم عنده. مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين، فبعث الله محمدًا r يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلاً عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون مقرون يشهدون أن الله هو الخالق الرزاق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو ولا يحيي إلا هو ولا يميت إلا هو ولا يدبّر الأمر إلا هو وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيها كلها عبيده وتحت تصرفه وقهره ] أي أن مشركي العرب الذين بُعث إليهم محمد r يعبدون الله ولم تنفعهم هذه العبادة لما كانت مخلوطة بالشرك الأكبر، ولا فرق بين أن يكون المشرك به مع الله سبحانه صنمًا أو عبدًا صالحًا أو نبيًا مرسلاً أو ملكًا مقربًا ولا أن يكون قصد المشرك أن معبوده ليس شريكًا لله في ملكه بل هو مجرد وسيلة إلى الله ومقرب إليه.
    فدل ذلك على أمرين:
    الأول: أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده لا يكفي للدخول في الإسلام ولا يعصم الدم والمال ولا ينجّي من عذاب الله.
    الأمر الثاني: أن عبادة الله إذا دخلها شيء من الشرك أفسدها فلا تصح العبادة إلا مع الإخلاص.
    [ فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله r يشهدون لله هذه الشهادة فاقرأ قوله تعالى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }(1) وقوله: { قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ، قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }(2) وغير ذلك من الآيات ] يقول الشيخ رحمه الله تعالى: فإذا طلبت الدليل على أن المشركين مقرُّون بهذا – يعني بتوحيد الربوبية – وأنهم يشركون في توحيد الألوهية، إذا أردت الدليل على هذه المسألة العظيمة التي يُعرف بها الحق

    ردحذف
  5. من الباطل فاقرأ قوله تعالى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } فالمشركون يعترفون بأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المتصرف في عباده الذي بيده الأمر لا ينكر أحد منهم هذا قال تعالى: { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } هذا الرزق الذي تأكلون منه وتشربون وتلبسون وتركبون من الذي جاء به هل جاءت به الأصنام؟ الأصنام جمادات وحجارة، أم الأشجار أو الأموات أو القبور والأضرحة كلها لا تأتي بأرزاقكم فهم يعترفون بأن أصنامهم لا تخلق ولا ترزق قال تعالى: { أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ } السمع الحاسة العظيمة التي تسمع بها الأصوات والبصر الذي تبصر به المرئيات هذه العين التي يجعل الله فيها هذا البصر وهذا النُّور من الذي خلقه فيك؟ هل خلقه أحد غير الله؟ فهل رأيتم أحدًا من الخلق أوجد في أحد السمع إذا سلب منه وهل يستطيع أحد أن يرد للأعمى البصر الذي ذهب عنه؟ لو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يجعلوا في عينه بصرًا ما استطاعوا لا الأصنام ولا الأطباء ولا الحُذاق من العلماء، فالمشركون معترفون بأن أصنامهم لا تعمل أي شيء من ذلك قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ }(1) لا يوجد أحد يجيب عن هذا السؤال ولا أحد يستطيع غير الله أن يأتي بالسمع والبصر.
    { وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ } هذا من العجائب يخرج الحي من الميت يُخرج الزرع من الحبّة ويخرج المؤمن من الكافر { وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ } يخرج الكافر من المؤمن ويخرج البيضة من الطائر. الذي يقدر على هذا هو الله سبحانه وتعالى: { وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ } هذا عموم. يعني كل الأمور من الموت والحياة والمرض والصحة والكفر والإيمان والغنى والفقر والليل والنهار والعز والذل والملك يعطي ذلك من يشاء ويأخذه ممن يشاء كل ما يجري في هذا الكون من تقلبات وتغيّرات من الذي يوجد هذه التغيرات وهذه التقلبات؟ فسيقولون الله، فقال الله لنبيه r :{فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} ما دام أنكم معترفون أن هذه الأمور بيد الله وأن أصنامكم لا تفعل شيئًا منها أفلا تتقون الله عز وجل وتوحدونه وتفردونه بالعبادة لأنكم إن لم تتقوا الله فإن الله يعذبكم لأنه أقام عليكم الحجة وقطع منكم المعذرة فلم يبق إلا العذاب ما دمتم عرفتم الحق ولم تعملوا به { فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }(2) تبين لكم أن العبادة حق لله تعالى فلا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى فإن لم تعبدوه فإن هذا ضلال فماذا بعد الحق الذي هو التوحيد وإفراد الله بالعبادة إلا الضلال الذي هو الشرك. فليحذر المسلم من هذا وليقبل الحق إذا تبين له خصوصًا في أمر التوحيد والعقيدة. يقبل الحق إذا تبين له ويخاف أن يصرف عنه فلا يقبله بعد ذلك وقوله تعالى: { قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ، قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ }(3) هذه آيات من سورة المؤمنون مثل الآيات التي في سورة يونس التي ساقها المصنِّف ومثل غيرها من الآيات التي تقرر أن المشركين يعترفون لله بربوبيته ولكنهم يعارضون في توحيد الألوهية.

    ردحذف
  6. قال تعالى: { قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } مادامت الأرض ومن فيها لله كيف تعبدون الأصنام التي لا تملك شيئًا وتعبدون القبور الميتة التي لا حياة في أصحابها؟ { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أفلا تذكرون أن الذي يملك الأرض ومن فيها هو المستحق للعبادة دون هذه الأصنام التي تعبدونها.
    وهذا إقامة للحجة عليهم بما يعترفون به على ما جحدوه فهم يعترفون بتوحيد الربوبية ويجحدون توحيد الألوهية.

    [ فإذا تحققت أنهم مقرُّون بهذا، ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله r وعرفت أنت التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد ] أي إذا عرفت أن المشركين مقرون بتوحيد الربوبية وأن الذي جحدوه هو توحيد الألوهية وهم يقولون إن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت لكن إذا قيل لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }(1) أي إذا قيل لهم اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا قالوا كما قال قوم نوح من قبل: { لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }(2).
    كذلك هؤلاء المشركون كان الجدال الذي بينهم وبين الرسول r هو في عبادة الله وحده لا شريك له، فالرسول r يقول لهم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وهم يقولون: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا }(3).
    ويقولون هذا دين آبائنا وأجدادنا حتى إن أبا طالب عند الوفاة لما طلب منه الرسول r أن يقول: « لا إله إلا الله » أبى أن يقولها. وقال: هو على ملة عبد المطلب(4) ، وملة عبد المطلب عبادة الأصنام. هذا هو محل النزاع بين الرسل وبين الأمم فالرسل يقولون للأمم اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ولكن المشركين أبوا إلا البقاء على عبادة الأصنام، فالخصومة بين الرسل وبين الأمم هي في توحيد الألوهية. أما توحيد الربوبية فهو محل إجماع عند الجميع لم يخالفوا فيه وإنما خالفوا في توحيد الألوهية فهو محل النزاع وهو الذي شرع من أجله الجهاد في سبيل الله يقول الرسول r : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله »(5).
    فلو كان الرسول r يطلب منهم الإقرار بتوحيد الربوبية ما صار بينهم خصومة ولا نزاع لأنهم معترفون به. [ كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهارًا ] وهذا أمر ثان من شأن المشركين كما أنهم يعترفون بتوحيد الربوبية فهم أيضًا يعبدون الله فيدعونه ويحجون إلى البيت ويعتمرون ويتصدقون ويعبدون الله بأنواع من العبادة لكنهم يخلطونها بالشرك بحيث يعبدون الله ويعبدون غيره، وهذا لا ينفعهم شيئًا لأن الشرك يبطل عبادتهم فالعبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص ولهذا يقول جل وعلا: { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا }(6) وقال سبحانه وتعالى: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }(7). ما اقتصر على قوله فليعمل عملاً صالحًا.
    بل لابد أن يتجنب الشرك فإذا كان لم يتجنب الشرك ولو كان يعمل أعمالاً كثيرة فإنها تبطل ولا تنفع.

    ردحذف
  7. فالمشركون كان عندهم عبادات لله عز وجل وهي من بقايا دين إبراهيم الخليل عليه السَّلام، فكانوا في البداية على دين إبراهيم ولكن لما جاء عمرو بن لحي الخزاعي غيّر دينهم وأدخل فيه الشرك، لكن بقيت بقايا من دين إبراهيم عندهم وهم مشركون فهم يدعون الله خصوصًا إذا وقعوا في الشدة فإنهم يخلصون الدعاء لله عز وجل ويتركون دعاء الأصنام لأنها لا تنفع في هذا الموقف ولا تنجدهم في وقت الشدة عليهم بهذا فقال سبحانه: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا }(1) وقال تعالى: { وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ }(2).
    فالعبادات إذا خالطها شرك تكون باطلة. فالذين يدَّعون الإسلام الآن ويصلّون ويصومون ويحجّون ولكنهم يَدْعُون الحسين والبدوي وعبد القادر الجيلاني هؤلاء مثل المشركين الأولين؛ فالمشركون يتعبدون لله عز وجل ولكنهم يدعون اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ولا يقولون إن هذه أرباب بل يقولون هذه تقربنا إلى الله زلفى نريد منها الزلفى عند الله والتقرب إلى الله، فهي وسائط وشفعاء بيننا وبين الله. وهؤلاء يقولون الحسن والحسين وعبد القادر والبدوي إنما هم شفعاء لنا عند الله ولا يقولون إنهم يخلقون ويرزقون ويتصرفون في شيء من الأمور وإنما هذا لله عز وجل، إنما هؤلاء وسائط وشفعاء. ويقول بعض الناس هؤلاء مسلمون فنقول ولماذا لا يكون كفار قريش مسلمين أيضًا؟!.
    وهذا القائل ليس عنده فهم للتوحيد ولا بصيرة لأنه ما فهم التوحيد. والواجب على الإنسان أن يعرف هذا الأمر لأنه مهم جدًا وهذه هي الثقافة الصحيحة. ليست الثقافة أن تعرف أحوال العالم والحكومات والسياسات، هذه ثقافة لا تنفع ولا تضر. الثقافة التي تنفع هي معرفة التوحيد الصحيح ومعرفة ما يضاده من الشرك أو ينقصه من البدع والمحدثات، هذه هي الثقافة الصحيحة وهذا هو المطلوب من المسلم ومن طالب العلم أن يعرف التوحيد وأن يدعو إليه هذا هو المطلوب. ماذا ينفع العلم الكثير من غير تحقيق ومن غير بصيرة؟ لا ينفع شيئًا ولا يفيد صاحبه شيئًا إذا لم يكن مبنيًا على تحقيق وتوحيد وعبادة لله ومعرفة للحق من الباطل فإنه لا ينفع صاحبه إذا كان مجرد اطلاع أو مجرد ثقافة عامة.

    ردحذف
  8. [ ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعو رجلاً صالحًا مثل اللات أو نبيًا مثل عيسى ] هؤلاء المشركون متفرقون في عباداتهم منهم من يعبد الملائكة ومنهم من يعبد عيسى بن مريم ومنهم من يعبد الصَّالحين. هذا دين المشركين وهو الواقع في كثير من العالم الإسلامي اليوم مع الأسف يعبدون الله ويحجّون ويصومون ويصلّون لكنهم واقعون في الشرك الأكبر فيعبدون الأموات ويذبحون لهم ويستغيثون بهم وقد يعتذر لهم بعض من لا بصيرة عنده بالتوحيد.
    فيقول: هؤلاء معذورون ولا يعتقدون في الأموات أنهم يخلقون ويرزقون وإنما اتخذوهم وسائط وشفعاء، فإن استحيى قال: هؤلاء مخطئون وربما يقول: هؤلاء مجتهدون والمجتهد مأجور أو يقول: هؤلاء جهال، وكيف يكونون جهالاً والقرآن يتلى عليهم والأحاديث تسمع وكلام أهل العلم يتردد عليهم، بل هؤلاء معاندون لأنهم قد قامت عليهم الحجّة فلم يقبلوها. وهناك من يقول إن الإنسان مهما فعل ومهما قال لا يحكم عليه بالكفر ولا بالشرك حتى يعلم ما في قلبه، ويا سبحان الله هل نحن نعلم ما في القلوب أو الله الذي يعلم ما في القلوب؟ نحن نحكم على الظواهر أما البواطن فلا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فالذي يعمل بالشرك يحكم عليه أنه مشرك ويعامل معاملة المشركين حتى يتوب إلى الله تعالى ويلتزم بعقيدة التوحيد. كما أن الذي يعمل بالتوحيد وينطق بالشهادتين يعامل معاملة المسلمين ما لم يظهر منه ما يناقض ذلك فنعامل كلاً حسب ما يظهر منه.
    [ وعرفت أن رسول الله r قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }(1) ] أي وعرفت أن تَعَبُّدهُم لله مع الشرك به لم ينفعهم لأن الرسول r لم يقبله منهم بل دعاهم إلى إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه. وهذه الآية تمنع عبادة الملائكة وتمنع عبادة الرسل وتمنع عبادة الصالحين ففيها إبطال عبادة غير الله عز وجل كائنًأ من كان ولو كان أصحابها لا يعتقدون فيهم أنهم يخلقون ويرزقون.
    وإنما يقولون إن هؤلاء صالحون فيتخذونهم وسائط بينهم وبين الله وشفعاء لهم عند الله عزَّ وجلَّ يقربونهم إلى الله زلفى كما قال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(2) وفي زماننا الحاضر يقولون هؤلاء وسائل نتوسل بهم إلى الله عز وجل وهذا كله دين الجاهلية وهو باطل. لأنّه عبادة لغير الله عز وجل.
    [ وكما قال تعالى: { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ }(3)] له دعوة الحق أي العبادة الصحيحة كما قال تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ }(4) والله جل وعلا لا يقبل إلا دعوة الحق يعني الدين الخالص، أما الذي يعبد الله ويعبد معه غيره فهذه دعوة شرك لا يقبلها الله.
    وقوله: { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } عام في كل من دعي من دونه سواء من الملائكة أو من الرسل أو من الصالحين أو من الأصنام أو من أي شيء وقوله: { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } أي لا يستجيبون لمن دعاهم بشيء لأنهم عاجزون لا يقدرون على شيء. ( فائدة في بيان معنى الرب والإله ) الله جل وعلا في القرآن ذكر الرب في

    ردحذف
  9. مواضع، وذكر الإله في مواضع. خذ مثلاً سورة الناس، يقول سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ }(5) فما الفرق بين رب الناس وإله الناس؟ هل هما بمعنى واحد؟ إذًا يكون الكلام مكررًا أو أنهما بمعنيين فلابد من معرفة الفرق بينهما، وكثيرًا ما يأتي ذكر الرب كقوله تعالى: { قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ }(6). فتكرر لفظ الرب وتكرر لفظ الإله فما معنى كل منهما؟ فالرب معناه المربي لخلقه بنعمه ومغذيهم برزقه تربية جسمية بالأرزاق والطعام، وتربية قلبية روحية بالوحي والعلم النَّافع وإرسال الرسل.
    ومن معاني الرب أنه المالك للسماوات والأرض فرب الشي مالكه والمتصرف فيه، ومن معاني الرب المصلح الذي يصلح الأشياء ويدفع عنها ما يفسدها، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يصلح هذا الكون وينظمه على مقتضى إرادته وحكمته سبحانه وتعالى. أما الإله فمعناه المعبود من أله يأله بمعنى عبد يُعبَد فإله معناه معبود وليس معناه الرب وإنما معناه المعبود والإلهية هي العبادة والوله هو الحب لأنه سبحانه وتعالى يحبه عباده المؤمنون ويخافونه ويرجونه ويتقربون إليه. هذا هو معنى الإله فتبين الفرق بين معنى الرب ومعنى الإله وأنهما ليسا بمعنى واحد ومن قال إنهما بمعنى واحد فقد غلط، والعلماء يقولون إذا ذكرا جميعًا صار الرب له معنى والإله له معنى، وإذا ذكر واحد دخل فيه معنى الرب أما إذا ذكرا جميعًا مثل ما في سورة الناس فإنه يكون للرب معنى وللإله معنى آخر كما في لفظ الفقير والمسكين إذا ذكرا جميعًا كما في قوله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ }(1) صار للفقير معنى وللمسكين معنى، فالفقير هو الذي لا يجد شيئًا وأما المسكين فهو الذي يجد بعض الكفاية فالمسكين أحسن حالاً من الفقير. ومثل لفظ الإسلام والإيمان إذا ذكر الإسلام والإيمان صار الإسلام معناه الأعمال الظاهرة والإيمان معناه الأعمال الباطنة كما في حديث جبريل: قال أخبرني عن الإسلام قال: » الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ». فسّره بالأركان الظاهرة. قال أخبرني عن الإيمان قال: » أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره » (2) . فسّره بالأعمال الباطنة وهو إيمان القلب. هذا إذا ذكرا جميعًا صار لكل واحد معنى وإذا ذكر أحدهما وحده دخل فيه الآخر. ومن هنا نعرف الفرق أيضًا بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فتوحيد الربوبية هو الإقرار بأن الله هو الخالق والرازق المحيي المميت أي الاعتراف بأفعال الله سبحانه وتعالى؛ وتوحيد الألوهية معناه إفراد الله بأعمال العباد التي يتقربون بها إليه مما شرع. هذا معنى توحيد الألوهية فهناك فرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وما دمنا قد عرفنا معنى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية نأتي إلى حالة المشركين الذين بعث إليهم رسول الله r فإنهم كانوا مقرّين بالنّوع الأول الذي هو توحي الربوبية ولم يدخلهم في الإسلام، بل اعتبرهم الرسول r كفارًا مشركين وقاتلهم وهم يقرون بتوحيد الربوبية، فهم أقروا بتوحيد الربوبية وجحدوا توحيد الألوهية لما طلب منهم أن يفردوا الله بالعبادة ويتركوا عبادة الأصنام قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }(3) لأنه قال لهم قولوا لا إله إلا الله فهم فهموا معنى لا إله إلا الله وهو أنه لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له وهم لهم أصنام ولهم معبودات كثيرة لا يريدون تركها والاقتصار على عبادة الله وهذا لا يرضيهم ولذلك أنكروا وقالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } طلب منا أن نعبد الله وحده ونترك عبادة اللات والعزى ومناة وهبل وغيرها من الأصنام هذا شيء لا يعقل عندهم { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ }(1) ملة آبائهم فهذا احتجاج بما عليه آباؤهم؛ الحجة الملعونة التي احتجت بها الأمم من قبل إذا دعوا إلى عبادة الله. حتى فرعون يقول: { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى }(2) فهم لمّا فهموا معنى لا إله إلا الله استغربوا هذا واستنكروه وتواصوا برفضه وفي الآية الأخرى يقول سبحانه فيهم: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ، وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ }(3).
    وهذا يبين معنى لا إله إلا الله تمامًا ويوضحه ويقطع الجدال، فإن فيه ردًا على من غلط في معنى لا إله إلا الله. فعلماء الكلام في مقرراتهم وعقائدهم يقولون لا إله إلا الله معناها لا خالق ولا رازق ولا قادر على الاختراع إلا الله هذا معنى الإله عندهم.

    ردحذف
  10. [ وأن قصدهم الملائكة والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم ] أي أنهم لم يقولوا إن الملائكة والأنبياء والأولياء الذين يعبدونهم يخلقون ويرزقون ويحيون ويميتون ما قالوا هذا وإنما اتخذوهم شفعاء ووسائط بينهم وبين الله كما قال تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(1) ما أرادوا منهم إلا الشفاعة وزعموا أن هذا تعظيم لله يقولون: الله عظيم ما يمكن أن نصل إليه بدعائنا لكن نتخذ من يوصل إليه حاجاتنا من عباده الصالحين، من الملائكة والرسل والصالحين فقاسوا الله على ملوك الدنيا الذين يتوسط عندهم أصحاب الحاجات بالمقربين عندهم، فهم لم يعتقدوا فيهم أنهم يخلقون ويرزقون كما يقول الجهال: إن الشرك هو اعتقاد أن أحدًا يخلق مع الله أو يرزق مع الله، هذا ما قاله أحد من عقلاء بني آدم، وإنما قصدهم الشفاعة وفي الآية الأخرى: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(2) يقولون نحن عباد ضعفاء والله جل وعلا شأنه عظيم ولا نتوصل إليه فهؤلاء يقربونا إلى الله زلفى، شبّهوا الله بملوك الدنيا هذا هو أصل الكفر فدل على أنهم لم يعتقدوا فيهم الشرك في الربوبية وإنما اعتقدوا فيهم الشرك في الألوهية فإذا سألت أي واحد الآن يذبح للقبور أو ينذر لها ما الذي حملك على هذا؟ فإنهم يقولون كلهم بلسان واحد: والله ما اعتقدنا أنهم يخلقون ويرزقون وأنهم يملكون شيئًا من السماوات والأرض إنما اعتقدنا أنهم وسائط لأنهم صالحون يوصلون إلى الله حاجاتنا ويبلغونه حاجاتنا هذا قصدنا. ومع هذا سماهم الله مشركين وأمر نبيه بجهادهم كما قال تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(3) مع أنهم يقولون لا نعتقد أنهم يخلقون ويرزقون ويدبِّرون مع الله وإنما قصدنا اتخاذهم وسائط فنحن نذبح لهم وننذر لهم ونتوسل بهم لأن الله لا يصل إليه شيء من أمورنا إلا بواسطتهم، فهم يوصلونه إلى الله ويكونون وسائط يقربوننا إلى الله زلفى وشفعاء عند الله، هذه شبهتهم قديمًا وهذه شبهة عباد القبور اليوم. { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } فتشابهت أقوالهم وأفعالهم.
    [ عرفت حينئذٍ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون ] أي إذا فهمت ما سبق من الآيات البينات التي تدل على أن المشركين الأولين لم يشركوا في الربوبية وإنما أشركوا في الألوهية فاتخذوا الآلهة من دون الله لتقربهم إلى الله عز وجل وتشفع لهم عنده. إذا تبين لك هذا. عرفت أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل وجحده المشركون هو توحيد الألوهية لا توحيد الربوبية وأن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده لا يكفي ولا يدخل من أقرّ به في الإسلام.
    ومعرفة ذلك أمر مهم جدًا إذ به يعرف التوحيد والشرك والإسلام والكفر. والجهل بذلك ضرره عظيم وخطره كبير لأن الإنسان قد يخرج من الإسلام وهو لا يدري.
    [ وهذا التوحيد هو معنى قوله: لا إله إلا الله ] أي معنى لا إله إلا الله هو توحيد الألوهية لا توحيد الربوبية لأنه لو كان معناها توحيد الربوبية لما قال الرسول r للمشركين قولوا لا إله إلا الله لأنهم يقولون إن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت وإنه حينئذٍ يطلب منهم ما هو تحصيل حاصل ويقاتلهم على شيء يعترفون به ويقرون به؛ وهذا القول باطل.
    [ فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكًا أو نبيًا أو وليًا أو شجرة أو قبرًا أو جنيًا ] هذا تعليل لما سبق في تقرير معنى لا إله إلا الله وأنه توحيد الألوهية لأن الإله عند مشركي العرب هو الذي يقصد لقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفان وليس الإله عندهم هو الذي يخلق ويرزق ويدبر ليس هذا هو الإله عندهم فالشرك عندهم لم يقع في توحيد الربوبية وإنما وقع في توحيد الإلهية.
    .

    ردحذف
  11. [ لم يريدوا أنّ الإله هو الخالق الرازق المدبَّر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده، كما قدمت لك وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ «السيد» ] أي ليس الإله عند المشركين الأولين هو الخالق الرازق المدبر لأن هذا معنى الرب، وفرق بين معنى الرب ومعنى الإله وفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا أي زمان المؤلف بلفظ السيد وإلى الآن يسمون هؤلاء الذي يدّعون صلاحهم ويتقربون إليهم يسمّونهم السادة كالسيد البدوي والسيد الرفاعي والسيد التيجاني، إلى غير ذلك يعتقدون أن هؤلاء السادة لهم منزلة عند الله تؤهلهم أن يتوسطوا لهم عند الله وتؤهلهم أن يُدعوا من دون الله ويذبح وينذر لهم ويطاف بقبورهم ويتبرك بها. فالمشركون الأولون يسمون هذه الأشياء آلهة والمشركون المتأخرون يسمون هذه الأشياء وسائط ووسائل وشفعاء والأسماء لا تغيّر الحقائق فهي آلهة.
    [ فأتاهم النبي r يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي: لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها ] أي أن النبي r دعا المشركين إلى تحقيق معنى: لا إله إلا الله التي هي كلمة التوحيد، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله وهو الذي بعث الله به رسوله إلى المشركين ولم يبعثه إليهم يدعوهم إلى توحيد الربوبية لأنهم مقرّون به وهو لا يكفي، لأنه قاتلهم وهم يقرون به، ومن قال إنه يكفي فإنه يلزم عليه تغليط الرسول r وأنه قاتل أناسًا مسلمين يعترفون بلا إله إلا الله إذا فسرناها بتوحيد الربوبية وهو الإقرار بالخالق الرازق القادر على الاختراع. ومع الأسف هذا التفسير الخاطئ للا إله إلا الله موجود في كتب العقائد التي ألّفها علماء الكلام وعلماء المنطق من المعتزلة والأشاعرة والتي تدرّس في كثير من المعاهد الإسلامية الآن. وعقائدهم مبنية على هذا الرأي وأن الإله معناه القادر على الاختراع فمن اعترف أن الله هو الخالق الرازق يعتبر موحدًا وأما من اعتقد أن أحدًا يخلق أو يرزق مع الله فهذا هو المشرك عندهم مع أن الشرك إنما وقع في توحيد الألوهية ولم يقع في هذا وليس هذا هو معنى لا إله إلا الله

    ردحذف
  12. وإنما معناها: لا معبود بحق إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله وجب عليه أن يُفرد الله بالعبادة وأن يترك عبادة ما سواه، فإن المقصود من هذه الكلمة معناها والعمل بمقتضاها لا مجرد النطق بها دون عمل بمعناها ومقتضاها، فمن قالها وهو يعبد غير الله لم يكن عاملاً بمقتضاها وهو ترك الشرك، ولا ينفعه مجرد النطق بها لأنه قد ناقض فعله قوله، والمشركون الأولون لما سمعوا هذه الكلمة عرفوا معناها وأنه ليس المقصود التلفظ بها فقط ولذلك قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }(1). وفي وقتنا هذا وجد من يفسّر لا إله إلا الله بأن معناها هو إفراد الله بالحاكمية وهذا غلط. لأن الحاكمية جزء من معنى لا إله إلا الله وليست هي الأصل لمعنى هذه الكلمة العظيمة، بل معناها لا معبود بحق إلا الله بجميع أنواع العبادات ويدخل فيها الحاكمية ولو اقتصر الناس على الحاكمية فقاموا بها دون بقية أنواع العبادة لم يكونوا مسلمين، ولهذا تجد أصحاب هذه الفكرة لا ينهون عن الشرك ولا يهتمون به ويسمونه الشرك الساذج، وإنما الشرك عندهم الشرك في الحاكمية فقط وهو ما يسمونه الشرك السياسي، فلذلك يركزون عليه دون غيره، ويفسرون الشرك بأنه طاعة الحكام الظلمة.
    [ والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي r بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه فإنه لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ] أي الكفار يعرفون معنى لا إله إلا الله ولهذا لما قال لهم r قولوا لا إله إلا الله قالوا: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا }(2) ولما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا: { أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ، بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ }(3) فهم فهموا معنى لا إله إلا الله وأبوا أن يعترفوا به لأنه يُلزِمُهم بترك عبادة الأصنام وهم لا يريدون هذا، وإنما يريدون البقاء على عبادة الأصنام. ولم يجرؤوا أن يقولوا لا إله إلا الله ويبقوا على عبادة الأصنام لأن في هذا تناقضًا وهم يأنفون من التناقض، في حين أن كثيرًا من المنتمين إلى الإسلام اليوم لا يأنفون من هذا التناقض فهم يقولون لا إله إلا الله بحروفها ولكنهم يخالفونها ويعبدون غير الله من القبور والأضرحة والصالحين بل والأشجار والأحجار وغير ذلك. فهم لا يفهمون معنى لا إله إلا الله.
    فلا يكفي التلفظ بلا إله إلا الله دون علم بمعناها وعمل بمقتضاها.
    بل لابد من العلم بمعناها أوّلاً ثم العمل بمقتضاها لأنه لا يمكن أن يعمل بمقتضاها وهو يجهل معناها ولهذا يقول جل وعلا: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }(4) فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، فالذي يجهل معنى لا إله إلا الله لا يمكن أن يعمل بمقتضاها على الوجه الصحيح.
    [ فإذا عرفت أن جهّال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممّن يدّعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة. بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني ] هذا من أعجب العجب أن جهال الكفار والمشركين في عهد النبي r يعرفون أن معنى هذه الكلمة هو إخلاص العبادة لله وترك عبادة غيره فلذلك امتنعوا عن النطق بها تحاشيًا لترك عبادة آلهتهم وتعصبًا لباطلهم؛ ومن يدعي الإسلام اليوم لا يفهم أن معنى هذه الكلمة هو ترك عبادة القبور والأضرحة وإخلاص العبادة لله، فلذلك صار يقولها وهو مقيم على شركه لا يأنف التناقض والجمع بين الضدين فصار جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. وصار هذا المدعي للإسلام يظن أن المراد بهذه الكلمة هو النطق بحروفها من غير اعتقاد لمعناها فصار يردد معها دعاء الموتى والمقبورين ليلاً ونهارً.
    [ والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمر إلا الله ] كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة التدمرية وغيرها (1) عن علماء الكلام أن الإله عندهم هو القادر على الاختراع يعني هو الذي يقدر على الخلق والرزق والإحياء والإماتة ويبنون عقائدهم على هذا ويفسرون لا إله إلا الله بهذا المعنى ويجعلون التوحيد هو الإقرار بتوحيد الربوبية وهذا غلط عظيم.
    فإذا كان هذا حال العالم منهم فكيف بالجاهل؟ وما هذا إلا من قلة الاهتمام بدعوة التوحيد وتقليد الآباء والأجداد والاكتفاء من الإسلام بمجرد الانتساب لأغراض وأهداف دنيوية الله أعلم بها. من غير تعرّف على الدين الحقيقي الذي أساسه التوحيد الخالص.
    [ فلا خير في رجل جُهَّالُ الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله ] لا خير في رجل يدعي الإسلام بل يدعي أنه من أهل العلم ولا يفهم معنى لا إله إلا الله وقد فهمها كفار قريش وعرفوا معناها.

    ردحذف
  13. إن الأمر خطير، والعار شنيع، والواجب على المسلمين أن ينتبهوا لدينهم ويتأملوا دعوة نبيهم ويفقهوا دينهم فقهًا صحيحًا ويقيموه على أساس سليم من عقيدة التوحيد والبراءة من الشرك وأهله، ولا يكتفوا بمجرد التسمي والانتساب إليه مع البقاء على الرسوم والعادات المخالفة له، وترديد عبارات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع.
    [ إذا عرفت ما قلت لك معرفة قلب ] أي إذا عرفت ما ذكرت لك من الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وعرفت أن المشركين أقروا بالأول وجحدوا الثاني فلم يدخلهم في الإسلام وقُتِلُوا واستُحِلَّت دماؤهم وأموالهم، إذا عرفت هذه الأمور معرفة قلب لا معرفة لسان فقط كأن يحفظ الإنسان هذا المعنى ويُؤديه في الامتحان وينجح فيه ولم يتفقّه فيه في قلبه ويفهمه تمامًا فهذا لا يكفي. فالعلم هو علم القلب وعلم البصيرة لا علم اللسان فقط.
    [ وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء }(2) ] أي الشرك في العبادة لا الشرك الذي هو اعتقاد أن أحدًا يخلق ويرزق ويدبر مع الله بل الشرك الذي حذّر الله منه هو اعتقاد أن أحدًا يستحق العبادة أو شيئًا من العبادة مع الله.
    فالشرك هو دعوة غير الله معه أو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، هذا هو الشرك الذي حرمه الله وحرم على صاحبه الجنة وأخبر أن مأواه النار. وهو الشرك الذي يحبط جميع الأعمال وهو الشرك في الألوهية وليس الشرك في الربوبية، وهذا تنبيه من الشيخ رحمه الله إلى أنه كما تجب معرفة التوحيد تجب معرفة الشرك.
    [ وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أوَّلهم إلى آخرهم، الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه ] دين الرسل هو الإسلام وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله هذا هو دين الرسل وهذا هو الإسلام. وأما الانتساب إلى الإسلام في الظاهر دون الباطن أو الانتساب إليه بالتسمي فقط دون التزام لأحكامه، أو الانتساب إليه مع ارتكاب ما يناقضه من الشرك والوثنيات، أو الانتساب إليه مع الجهل بحقيقته، أو الانتساب إليه دون موالاة لأوليائه ومعاداة لأعدائه فليس هذا هو الإسلام الذي جاءت به رسل الله. وإنما هو إسلام اصطلاحي مصطنع لا يغني ولا ينفع عند الله سبحانه وتعالى، وليس هو دين الرسل.
    [ وعرفت ما أصبح غالب النّاس فيه من الجهل بهذا ] وهو الجهل بالتوحيد والجهل بالشرك. هذا هو الذي أوقع كثيرًا من الناس في الضلال وهو أنهم يجهلون التوحيد الصحيح ويجهلون الشرك ويفسرون كلاً منهما بغير تفسيره الصحيح، هذا هو الذي أوقع كثيرًا من الناس في الغلط والكفر والشرك والبدع والمحدثات إلى غير ذلك، وذلك بسبب عدم معرفة ما أمر الله به من توحيده وطاعته، وما نهى عنه من الإشراك به ومعصيته فالعوام لا يتعلمون، وغالب العلماء مكبون على علم الكلام والمنطق الذي بنوا عليه عقيدتهم وهو لا يحق حقًا ولا يبطل باطلاً بل هو كما قال بعض العلماء: ( لا ينفع العلم به ولا يضر الجهل به)(1).
    [ أفادك فائدتين: الأولى: الفرح بفضل الله ورحمته كما قال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }(2) وأفادك أيضًا الخوف العظيم ] أي العلم بهذه الحقائق يفيدك فائدتين:
    الفائدة الأولى: أنك تفرح بفضل الله حيث مَنَّ عليك بمعرفة الحق من الباطل فإنها نعمة عظيمة، حُرمَ منها الكثير من الخلق، قال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } وفضل الله هو الإسلام، ورحمته هي القرآن { فَلْيَفْرَحُواْ } فرح شكر واعتراف بالنعمة. والفرح بفضل الله مشروع لأنه شكر لله سبحانه وتعالى على نعمة التوحيد ومعرفة الشرك وهذه نعمة إذا وُفّقت لها فإنه قد جمع لك الخير كله الفرح بالنعمة مشروع، أما الفرح المنهي عنه فهو الفرح بالدنيا كما قال تعالى: { وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ }(3) فالفرح بالدنيا وحُطَامها مذموم أما الفرح بالدين والفرح بالعلم النافع فهذا مشروع لأن الله أمر به.

    ردحذف
  14. أنك إذا عرفت التوحيد الصحيح وعرفت الشرك القبيح فإن ذلك يُفيدك الخوف أن تقع فيما وقع فيه كثير من الناس بالمخالفة لهذا الأصل والوقوع في الشرك وأنت لا تدري فلا تأمن على نفسك من الفتنة فلا تغتر بعملك أو بفهمك، ولكن قل لا حول ولا قوة إلا بالله واسأل الله الثبات، فإن إبراهيم الخليل الذي أعطاه الله من العلم واليقين ما لم يعط غيره إلا نبيًا يقول: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ }(1) فإبراهيم لم يأمن على نفسه الفتنة مع علمه ويقينه وهو الذي كسَّر الأصنام بيده وألقي في النار بسبب ذلك، ومع هذا يخاف على نفسه من الفتنة، فلا تغتر بعلمك وتأمن على نفسك من الفتنة ولكن كن دائمًا على حذر من الفتنة بأن لا تزلّ بك القدم وتغتر بشيء يكون سببًا لهلاكك وضلالك، فإن بعض المغرورين اليوم يقول إن الناس تجاوزوا مرحلة الجهل والبدائية وصاروا مثقفين واعين لا يتصور أن يعودوا للوثنية، أو نحوًا من هذا الكلام الفارغ، ولم يفطن لعبادة الأضرحة التي تنتشر في كثير من البلاد الإسلامية ولم ينظر فيما وصل إليه كثير من الناس من الجهل بالتوحيد. [ فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل ] قد يقول الإنسان كلمة من الكفر تُحبط عمله كله كالرجل الذي قال: « والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله جل وعلا: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان. إني قد غفرت له وأحبطت عملك »(2) كلمة واحدة تجرأ فيها على الله وأراد أن يمنع الله أن يغفر لهذا المذنب، فالله جل وعلا أحبط عمله وغضب عليه. والإنسان قد يتكلم بمثل هذه الكلمة ونحوها فيخرج من دين الإسلام، فالذين مع النبي r لما قالوا ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا وأكذب ألسنًا وأجبن عند اللقاء يزعمون أنهم قالوها من باب المدح ويقطعون بها الطريق بزعمهم قال الله فيهم: { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }(3) دل على أنهم مؤمنون في الأول فلما قالوا هذه الكلمة كفروا والعياذ بالله مع أنهم يقولونها من باب المزح واللعب.
    [ وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما كان يظن المشركون ] أي يقول كلمة الكفر وهو يظن أنها تقربه إلى مثل ما يقول المشركون: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(4) { هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(5).
    [ خصوصًا إن ألهمك الله ما قصَّ عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم، أنهم أتوه قائلين: { اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ }(6) فحينئذٍ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلّصك من هذا وأمثاله ] قوم موسى هم بنو إسرائيل الذين آمنوا بموسى خرجوا معه من مصر حيث أمره الله أن يخرج بهم فراراً من فرعون فخفي عليهم هذا الأمر مع أنهم علماء وفيهم صلاح وتقوى وخرجوا مع موسى مقاطعين لفرعون وقومه فلما أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم أرادوا تقليدهم في ذلك وطلبوا من موسى فقالوا: { اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ }(1) فأنكر عليهم موسى هذه المقالة وأخبرهم أن عمل هؤلاء القوم شرك بالله عز وجل فانظر كيف خفي عليهم هذا الأمر مما يدل على خطورة
    r

    ردحذف
  15. الجهل بالتوحيد وعدم معرفة حقيقة الشرك مما يسبب أن الإنسان قد يقول الكلمة التي تقتضي الكفر والخروج من الدين وهو لا يدري. ولا يخلصك من هذا وأمثاله إلا العلم النافع الذي به تعرف التوحيد من الشرك، وتحذر به من القول أو الفعل اللذين يوقعانك في الشرك من حيث لا تدري. وهذا يدل على بطلان قول من يقول: إن من قال كلمة الكفر أو عمل الكفر لا يكفر حتى يعتقد بقلبه ما يقول ويفعل. ومن يقول: إن الجاهل يعذر مطلقًا ولو كان بإمكانه أن يسأل ويتعلم، وهي مقالة ظهرت ممن ينتسبون إلى العلم والحديث في هذا الزمان.
    [ واعلم أن الله تعالى بحكمته لم يبعث نبيًا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا }(2) وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ }(3) ] حكمة الله تعالى في هذا تتلخص في أمرين:
    الأمر الأول: أنه ما بَعَثَ نبيًا من أنبيائه إلا جعل له أعداء من المشركين كما في الآية التي ذكرها المؤلف وكما في الآية: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا }(4) ولله في ذلك الحكمة من أجل أن يتبين الصادق من الكاذب، ويتبين المطيع من العاصي. إذا بعث الأنبياء يدعون إلى الهدى صار هناك دعاة للضلال من أجل أن يمتحن الناس أيهم يتبع الأنبياء وأيهم يتبع دعاة الضلال، ولولا ذلك لكان الناس كلهم يتبعون الأنبياء ولو في الظاهر ولا يتميز الصادق في اتِّباعه من المنافق لأن الأنبياء يتّبعهم المؤمن الصادق ويتبعهم المنافق الكاذب، والذي يميز هذا من هذا هو الابتلاء والامتحان، فالشدائد هي التي تبيّن الصادقين من المنافقين فالله جعل أعداءً للأنبياء لحكمة من أجل الابتلاء والامتحان { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ }(5) هذه هي الحكمة بأن الله جعل لكل نبي عدوًا شياطين الإنس والجن، والشيطان هو المارد العاصي فكل من تمرد عن طاعة الله فإنه شيطان سواء كان من الجن أو من الإنس، حتى الدواب المتمردة تسمى شيطانًا وهو من شاط الشيء إذا اشتد أو من شطن إذا ابتعد، فالشيطان يكون من عالم الجن ويكون من عالم الإنس، وقوله تعالى: { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ }(6) الزخرف في الأصل الذهب وزخرف القول هو القول المموّه المزوّر، لأجل أن يغر الناس. فالقول المزخرف هو الباطل المغلّف بشيء من الحق وهذا من أعظم الفتنة لأن الباطل لو كان مكشوفًا ما قبله أحد لكن إذا غُطي بشيء من الحق فإنه يقبله كثير من الناس وينخدعون بهذه الزخرفة، فهو باطل في صورة الحق، { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } الله قادر على منعهم من ذلك لكنه شاء أن يفعلوه من أجل الابتلاء والامتحان. وإذا كان هذا مع الأنبياء فكيف بغيرهم من الدعاة إلى الله وعلماء التوحيد فأتباع الأنبياء أيضًا يكون لهم أعداء من دعاة الباطل في كل زمان وفي كل مكان. هذا مستمر في الخلق وجود دعاة الحقّ وإلى جانبهم دعاة الباطل في كل زمان ومكان.

    ردحذف
  16. الأمر الثاني: وهو العجيب أن دعاة الباطل يكون عندهم علوم وعندهم كتب وعندهم حجج يجادلون بها أهل الحق كما قال تعالى: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم }(1) يعني الكفار { بِالْبَيِّنَاتِ } الحقائق البيّنة والعلم النافع { فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ } الذي توارثوه عن أجدادهم وآبائهم والذي هو عبارة عن كتبهم وعن حججهم التي توارثوها، وهذا واقع الآن، فكم في الساحة من كتب أهل الباطل ككتب الجهمية، وكتب المعتزلة، وكتب الأشاعرة، وكتب الشيعة كم في الساحة من كتب هؤلاء! وعندهم حجج مركبة ومزيفة تغر الإنسان الذي ليس عنده تمكن من العلم فعلم الكلام وعلم المنطق اعتمدوه وجعلوه هو العلم الصحيح الذي يفيد اليقين.
    [ إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله تعالى لابد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير سلاحًا تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }(2) ] أما أدلة القرآن والسنة فهي حجج ظنية بزعمهم لا تفيد اليقين وهذا من تمام الفتنة والتزييف على الناس. لأن الواقع الصحيح هو العكس وهو أن أدلة القرآن تفيد اليقين، وأدلة المنطق والجدل تفيد الشك والحيرة والاضطراب. كما أقر بذلك كبراؤهم عند الموت أو عند توبتهم ورجوعهم عن علم الكلام.
    إذا كان هؤلاء عندهم فصاحة وعندهم حجج وعندهم كتب فلا يليق بك أن تقابلهم وأنت أعزل بل يجب عليك أن تتعلم من كتاب الله ومن سنة رسول الله r ما تبطل به حجج هؤلاء الذين قال إبليس إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } أي لبني آدم { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي الطريق الموصل إليك { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }(3). تعهد الخبيث أنه سيحاول إضلال بني آدم وكذلك أتباعه من شياطين الإنس من أصحاب الكتب الضالة والأفكار المنحرفة يقومون بعمل إبليس في إضلال الناس.
    [ ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حججه وبيّناته فلا تخف ولا تحزن { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }(1) ] كما قال الله سبحانه وتعالى: { فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } فهم مهما كان عندهم من القوة الكلامية والجدال والبراعة في المنطق والفصاحة إلا أنهم ليسوا على حق وأنت على حق ما دمت متمسكًا بالكتاب والسنة وفهمت الكتاب والسنة فاطمئن فإنهم لن يضروك أبدًا { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }(2) لكن هذا يحتاج إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة فإنك بذلك لا تخاف مهما كان معهم من الحجج والكتب لأنها سراب كما قال الشاعر:حجج تهافت كالزجاج تخالها حقًا؛ وكل منها كاسر مكسور (3) فالسراب يزول كذلك هذه الحجج إذا طلعت عليها شمس القرآن وبينات القرآن زال هذا الضباب الذي معهم وهذه سنة الله سبحانه وتعالى: { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ }(4). { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاّمُ الْغُيُوبِ }(5) قذائف الحق تدمر الباطل مهما كان.
    [

    ردحذف
  17. والعامي من الموحّدين يغلب ألفًا من علماء هؤلاء المشركين، قال تعالى : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }(6) ] هذا من العجائب أن العامي غير المتعلم من الموحدين يغلب ألفًا من علماء المشركين، ذلك لأن العامي عنده الفطرة السليمة التي لم تتلوث بالشكوك والأوهام وقواعد المنطق وعلم الكلام. أما العالم المشرك فليس عنده فطرة سليمة ولا علم صحيح وصاحب الفطرة السليمة يتغلب على الذي ليس عنده فطرة ولا علم لأن علمه جهل. إذًا فالناس ثلاثة أقسام:
    القسم الأول: من عنده علم صحيح وفطرة سليمة وهذا أعلى الطبقات وهذا هو الذي أقبل على ربه وأصغى إلى حججه وبيّناته فصار عنده علم صحيح وفطرة سليمة.
    القسم الثاني: من ليس عنده علم لكن عنده فطرة سليمة وهو العامي من الموحدين.
    القسم الثالث: من ليس عنده فطرة سليمة ولا علم صحيح وإنما عنده سراب لا حقيقة له، فهذا يُهزم أمام العامي فكيف أمام العالم الذي عنده علم صحيح وفطرة سليمة؟ فهذا مما يدلك على أن تعلّم العلم النافع يكون سلاحًا للمؤمن أمام أعداء الله ورسوله.

    [ فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان كما هم الغالبون بالسيف والسنان ] قال تعالى: { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }(1) أضاف الجند إليه سبحانه وتعالى، وجند الله هم المؤمنون، يقال لهم جند الله ويقال لهم حزب الله كما في قوله تعالى: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ } إلى قوله: { أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(2). فهم حزب الله وجند الله، والجند جمع جندي وهو المقاتل والمدافع عن دين الله أضافهم إلى نفسه تشريفًا لهم، وجعل لهم الغلبة بالحجة والسلاح.
    جند الله هم الغالبون بالحجة واللسان يعني بالعلم والمعرفة ومجادلة أهل الباطل، فما تقابل أهل حق وأهل باطل في خصومة إلا تغلب أهل الحق على أهل الباطل في

    ردحذف
  18. يستدل به على شيء من باطله وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره فجاوبه بقولك: إن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتّبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله تعالى ذكر أن المشركين يقرّون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم: { هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(4) هذا أمر محكم بيّن، لا يقدر أحد أن يغيّر معناه، وما ذكرت لي أيها المشرك في القرآن أو كلام النبي r لا أعرف معناه ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي r لا يخالف كلام الله عز وجل، وهذا جواب سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله فلا تستهن به فإنه كما قال تعالى: { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }(5) ] أي إذا قال لك واحد من علماء المشركين الذين يتعلقون بالأولياء ويطلبون منهم المدد ويستغيثون بهم كما هو الحال والواقع الآن عند عبَّاد القبور ويقولون إن الله جل وعلا يقول: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } . وهؤلاء أولياء والنبي r أخبر أن الصالحين يشفعون وأن الأولياء يشفعون والرسل يشفعون فالجواب أن الشفاعة حق لا شك في ذلك، ولكنها كما ذكر الله لابد لها من شرطين:
    الإذن للشافع أن يشفع.
    وأن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد.
    ولا شك أن الله سبحانه وعد الأولياء أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لكن من الأولياء؟ هل الأولياء طائفة مخصوصة من الناس عليهم عمائم ولباس خاص؟ أو الأولياء الذين بني على قبورهم قباب؟ ليس كذلك. لأن الله سبحانه بيّنهم بعد هذه الآية مباشرة حيث قال: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ }(1).
    فكل مؤمن تقي فهو ولي لله ليست الولاية خاصة بطائفة معينة أو أشخاص معيّنين لهم لباس خاص ولهم سمات خاصة أو على قبورهم قباب وزخرفات؛ الأولياء كل مؤمن تقي فإنه ولي الله بنص هذه الآية. والولاية تختلف باختلاف الإيمان والتقوى، منهم من هو ولي كامل الولاية ومنهم من هو ولي دون ذلك بحسب إيمانه وبحسب تقواه فليست الولاية خاصة بما تزعمون من هؤلاء الأشخاص أو هؤلاء المقبورين والنبي r يقول: « رُبَّ أشعث مدفوع بالأبواب لو اقسم على الله لأبرّه »(2) فقد يكون الولي غير معروف ولا له مكانة عند الناس.
    هذا من ناحية ومن الناحية الثانية لو ثبت أنه ولي لله عز وجل فإن هذا لا يعطيه شيئًا من الربوبية ولا شيئًا من حق الله، لأنه عبد الله محتاج إلى ربه عز وجل ولا يملك من الأمر شيئًا لا يخلق ولا يرزق فليس المعنى أنه إذا كان وليًا أننا نتعلق به وننزل حاجاتنا به ونستغيث به ونطلب منه لأن الله قال: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء }(3) وقال تعالى: { وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا }(4) لا من الأولياء ولا غيرهم فالله لا يرضى بهذا سبحانه وتعالى فليس معنى قوله تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }(5) أنهم يملكون شيئًا من الربوبية وأنهم ينفعون ويضرون وأنهم يعطون الشفاعة وأنهم وأنهم.. كما يزعم القبوريون. فمن تعلق بالأولياء وطلب منهم الشفاعة وهم أموات أو طلب منهم الإغاثة وهم أموات أو طلب منهم قضاء الحاجات وهم في قبورهم فإنه مثل المشركين الأولين الذين قال الله فيهم: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(6) هم يقولون نحن لا نعتقد أنهم يخلقون ويرزقون وإنما من أجل أن نجعلهم

    ردحذف
    الردود
    1. الخصومات والمناظرات دائمًا وأبدًا. فهم الغالبون بالحجة مع المبطلين كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان في المعارك، إذا تقابل الجندان المسلمون والكفار فإنه ينتصر المسلمون على الكفار إذا توفرت شروط النصر فيهم بأن توكلوا على الله واعتصموا بالله وأطاعوا الله ورسوله، فإن حصل فيهم خلل لحقت بهم الهزيمة كما حصل للصحابة في وقعة أحد لما عصوا أمر الرسول r ونزلوا من الجبل الذي قال لهم لا تنزلوا منه سواء انتصرنا أو هُزمنا فلما خالفوا ونزلوا من الجبل حلت الهزيمة بالمسلمين(3).
      [ وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح ] هذا هو الواقع فالموحد الذي يسلك الطريق ويواجه الكفار ويقول أنا أدعو إلى الله وليس عنده علم لو يقف أمامه واحد من عوامهم ويلقي عليه شبهة ما استطاع الجواب. فهذا مما يُوجب على طلبة العلم وعلى الدعاة إلى الله خصوصًا أن يتفقهوا في دين الله وأن يتعلموا حجج الله وبراهينه وأن يطّلعوا على ما عند الخصوم والكفار والمنافقين من الباطل من أجل أن يدحضوه ويكونوا على معرفة به. والنبي r لما أرسل معاذًا إلى اليمن قال له: « إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب »(4) من أجل أن يستعد لأن الذين أمامه أهل كتاب وأهل علم وعندهم حجج وعندهم شبهات وعندهم تلبيس، فلا بد أن يكون معاذ رضي الله عنه على استعداد من أجل أن يقوم بالدعوة ويرد الباطل ثم قال له: « فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله » فهذا مما يؤكد على الموحدين عمومًا وعلى طلبة العلم خصوصًا وعلى الدعاة إلى الله بصفة أخص أن يتعلموا ما يدفعون به الباطل وينصرون به الحق وإلا فإنهم سينهزمون أمام أي شبهة تعرض لهم. والمشكلة إذا عجز الداعية إلى الله أن يُجيب على شبه الملبس أمام الناس أو أجابه بجهل، وهذا أشد. ولا يتعارض هذا مع قول الشيخ: « والعامي من الموحدين يغلب ألفًا من علماء المشركين » لأن العامي الموحد وإن كان كذلك فعليه الخوف من شرهم وأخذ الحذر منهم بتعلم العلم النافع. وقد استشكل بعض الإخوان هذه العبارة. وهي قول الشيخ: (والعامي من الموحدين يغلب ألفًا من علماء هؤلاء المشركين) مع قوله: (وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح) والجواب عن هذا الإشكال أن الشيخ رحمه الله يقصد أن العامي عنده فطرة سليمة يستنكر بها الباطل، أما علماء الضلال ففطرهم فاسدة وحججهم واهية فالعامي يغلبهم بالفطرة السليمة من حيث الجملة لا من حيث التفاصيل.
      فالعامي الموحد أحسن حالاً من علماء الكلام والمنطق فكتاب الله ما ترك شيئًا نحتاج إليه من أمور ديننا إلا وبيّنه لنا لكن يحتاج منا إلى تفقه وتعلم ولو كان عندك سلاح ولكن لا تعرف تشغيله فإنه لا يدفع عنك العدو وكذلك القرآن لا ينفع إذا كان مهجورًا وكان الإقبال على غيره من العلوم.
      [ وقد منَّ الله تعالى علينا بكتاب الذي جعله { تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }(1) . فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبيّن بطلانها. كما قال تعالى: { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }(2). قال بعض المفسرين: هذا الآية عامة في كل حجةٍ يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة ] هذه قاعدة معروفة لأن الله جل وعلا يقول عن القرآن: { تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ } ويقول: { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } فلا

      حذف

    2. فالقرآن منه آيات على هذا الشكل { مُّحْكَمَاتٌ } يعني بيّنات واضحات في معانيها لا تحتاج إلى غيرها { هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } أم الشيء هو الأصل الذي يرجع إليه فالآيات المحكمات هن الأصل الذي يرجع إليه { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } المتشابه هو الذي يحتاج لبيان معانيه إلى غيره فيرد إلى المحكم، ومن المتشابه المحتمل لمعاني متعددة ويحتاج إلى غيره في بيان المراد منه، ومنه المطلق ومنه المنسوخ. وقد ذكر تعالى موقف الناس من هذين القسمين المحكم والمتشابه فقال: { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } يأخذون الآيات غير الواضحة أو الآيات المحتملة ويستدلون بها على ما يريدون مع أنها محتملة ليست نصًا فيما يقولون لكن هم يريدون التلبيس على الناس يقولون نحن استدللنا بالقرآن فيأخذون الآيات التي لا يتضح معناها بنفسها أو الآيات المحتملة لعدة معان فيستدلون بها على ما يريدون { ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ } أي التشكيك والتضليل أو { ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } التأويل يطلق على معنيين كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته التدمرية(2) . المعنى الأول: أن المراد به التفسير وهذا هو المعروف عند المتقدمين. ولذلك تجد ابن جرير الطبري في تفسيره يقول: القول في تأويل قوله تعالى أي في تفسيره فإن كان هذا هو المقصود في الآية: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } فإنه يعطف الراسخون في العلم على لفظ الجلالة هكذا { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } يعني والراسخون في العلم يعلمون تأويله وهو التفسير وذلك بردّه إلى المحكم الذي يبيّن المراد منه.
      فتفسير القرآن على هذا الوجه لا يعلمه إلا الله وأهل العلم المختصون وأمَّا العوام والجهّال فلا يعلمون تفسيره، وأهل الزيغ يأخذون المتشابه ولا يردونه إلى المحكم ويقطعون بعض القرآن عن بعض فيأخذون بعض الآيات ويتركون البعض الآخر.
      أما المعنى الثاني: للتأويل فهو الحقيقة التي يؤول إليها الشيء. وما يصير إليه في المستقبل، مثل حقائق ما في الجنة من أعناب ونخيل وفواكه ولبن وخمر وعسل وأشياء لا يعلم حقائقها إلا الله سبحانه وتعالى، لأنها من علم الغيب، وكذلك كيفية أسماء الله وصفاته لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى فالتأويل على هذا المعنى ما يؤول إليه الشيء في المستقبل فإذا أريد هذا المعنى تَعَيّنَ الوقفُ في الآية على لفظ الجلالة. لأنه لا يعلم تأويله على هذا الوجه إلا هو سبحانه.
      [ وقد صح عن رسول الله r ، أنه قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله، فاحذروهم»](1) صح عن النبي r في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أنه قال: »إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه« أي من القرآن والسنة ويأخذون بالنصوص المجملة ويتركون النصوص المفصلة « فأولئك الذين سمى الله » في هذه الآية: { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } « فاحذروهم » أي احذروا أصحاب هذه الطريقة لا يُلبسوا عليكم أمر دينكم فهذا فيه التحذير من علماء الضلال ومن المبتدعة لئلا يلبسوا علينا أمر ديننا فهؤلاء من الذين { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ }(2).
      [ مثال ذلك: إذا قال لك بعض المشركين: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }(3) أو إن الشفاعة حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلامًا للنبي

      حذف
  19. وسائط بيننا وبين الله لأنهم أولياء ونحن مقصرون ونحن مذنبون فهؤلاء بصلاحهم وجاههم ومكانتهم عند الله يشفعون لنا والله رد عليهم فقال:
    { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فسمّى هذا شركًا وقال في آية أخرى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(7) يريدون الوساطة فقط عند الله سبحانه وتعالى، وإلا فإنهم معترفون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت فيعترفون بتوحيد الربوبية تمامًا كما ذكر الله عنهم، وإنما قصدوا بفعلهم هذا وساطة هؤلاء الصالحين عند الله فنذروا لهم وذبحوا لهم واستغاثوا بهم: يا سيدي اشفع لي عند الله، افعل كذا، هذا الذي يقولونه عند القبور هل هذا يختلف عما قاله المشركون من قبل، الذين رد عليهم جل وعلا بقوله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }(1) حكم عليهم بالكذب وحكم عليهم بالكفر فعملهم هذا كفر وكذب. وفي سورة يونس نزّه نفسه عن ذلك فقال: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }(2) سماه شركًا.
    فالأولياء عباد صالحون لهم قدرهم ونحترمهم ونحبهم ونقتدي بهم في الأعمال الصالحة لكن ليس لهم شركة مع الله سبحانه وتعالى إنما هم مثلنا محتاجون إلى الله عز وجل فقراء إلى الله عز وجل { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ } هذا عام { وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }(3) كل الخلق فقراء إلى الله عز وجل بما فيهم الأنبياء والرسل، بما فيهم الملائكة عليهم السلام كلهم فقراء إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا مما يزيل اللّبس لأن هؤلاء يأخذون بعض القرآن ويستدلون به ويتركون البعض الآخر؛ يأخذون الآية التي تمدح الأولياء وتثني عليهم ويتركون الآية الأخرى التي تبين أنهم لا يُعبَدُون من دون الله عز وجل وأنَّ مَن طلب منهم شيئًا وهم أموات فإنه مشرك كافر، يتركون هذه الآيات، فهذا من الزيغ الذي ذكره الله سبحانه وتعالى. فلتكن عندك هذه القاعدة أن الإنسان مهما بلغ من الصّلاح والكرامة والمنزلة عند الله فإنه ليس له من الربوبية شيء وإنه لا يُدعى مع الله وإنه لا يكون له شيء من العبادة وهو لا يرضى بذلك. فالأولياء والصّالحون على الحقيقة لا يرضون بذلك وينهون عنه أشد النهي إنما يرضى بذلك الطواغيت الذين يدعون الناس إلى عبادة أنفسهم. أما أولياء الله فحاشاهم من هذا لا يرضون به وإنما يرضى به أولياء الشيطان هذا معنى قول الشيخ رحمه الله.
    ( لكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام الرسول r لا يخالف كلام الله) فيجب رد النصوص بعضها إلى بعض وتفسير بعضها ببعض حتى يتضح المطلوب وهذا كما قال الشيخ جواب سديد تجب العناية به لأنه مبني على كتاب الله فمن وفّق له فهو ذو حظ عظيم.

    ردحذف
  20. [ وأما الجواب المفصّل: فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل، يصدّون بها الناس عنه: منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا r لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب، والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم. فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله r مقرّون بما ذكرت، ومقرّون أن أوثانهم لا تدبّر شيئًا وإنما أرادوا الجاه والشّفاعة، واقرأ عليهم ما ذكر الله في كتابه ووضّحه. فإن قال: هذه الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام أم تجعلون الأنبياء أصنامًا؟ فجاوبه بما تقدم، فإنه إذا أقر أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله، وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن إذا أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم: { أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ }(1) الآية، ويدعون عيسى بن مريم وأمه وقد قال الله تعالى: { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }(2) واذكر له قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}(3) وقوله سبحانه وتعالى: { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }(4) فقل له: أعرفت أن الله كفَّرَ من قصد الأصنام وكفَّر أيضًا من قصد الصّالحين، وقاتلهم رسول الله r فإن قال الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر، لا أريد إلا منه والصّالحون ليس لهم من الأمر شيء، ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم فالجواب: أن هذا قول الكفار سواءً بسواء واقرأ عليه قوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(5)

    ردحذف
  21. وقوله تعالى:{ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(6). واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم فإذا عرفت أن الله وضّحها في كتابه، وفهمتها فهمًا جيدًا فما بعدها أيسر منها ] ذكر الشيخ رحمه الله في هذا المقطع ثلاث شبهات للمشركين هي من أهم ما عندهم، فإذا عرفت الإجابة الصحيحة عنها فما بعدها من الشبهات أيسر منها:
    الشبهة الأولى: أنهم يقولون نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله r ونعلم أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله سبحانه وتعالى وأن النبي r لا يملك نفعًا ولا ضرًا فضلاً عن عبد القادر يعني عبد القادر الجيلاني، لكن هؤلاء لهم جاه عند الله فنطلب من الله بهم يعني نجعلهم وسائط بيننا وبين الله لما لهم من الفضل.
    فالجواب سهل جدًا من كتاب الله بأن تقول إن المشركين مع أصنامهم ما كانوا يعتقدون فيها أنها تخلق وترزق وتنفع وتضر وإنما اتخذوها وسائط بينهم وبين الله وهذا واضح في قوله تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
    نزّه نفسه عن فعلهم وسماه شركًا مع أنهم يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ويعتقدون أنهم لا ينفعون ولا يضرون وإنما قصدهم التعلق بالجاه فقط. فالآيات تدل على أن المشركين معترفون بأنه لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمر إلا الله سبحانه وتعالى وأن أصنامهم ومعبوداتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تدبر مع الله وإنما اتخذوها وسائط. ولا فرق بينكم وبينهم.
    وإذا كنت مذنبًا فلماذا لا تستغفر الله وتطلب من الله ، والله جل وعلا أمرك بالاستغفار ووعدك بالتوبة وأن يقبل منك ويغفر ذنوبك ولم يقل إذا أذنبت فاذهب إلى قبر الولي الفلاني أو العبد الصالح الفلاني وتوسل به واجعله واسطة بيني وبينك.
    وتقول أيضًا: هؤلاء إذا كان لهم جاه عند الله فإن جاههم لهم وصلاحهم لهم وأنت ليس لك إلا عملك وصلاح الصالحين لهم وجاههم عند الله لهم ما علاقتك بعمل فلان وصلاح فلان كل له عمله { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }(1) { وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }(2) فجاههم وصلاحهم لهم ولا ينفعك إذا كنت مذنبًا حتى والدك أقرب الناس إليك وولدك لا يستطيع ولو كان من أصلح الناس أن ينفعك { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }(3)، { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }(4). { وَاخْشَوْا يَوْمًا لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا }(5). { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ }(6).
    الشبهة الثانية: إذا قرأت عليه قوله تعالى: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }(7) وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }(8) وبيّنت له أن المشركين ما أرادوا ممن عبدوهم إلا الشفاعة وقال لك هذه الآيات نزلت في الذين يعبدون الأصنام وأنا لست أعبد الأصنام وإنما أتوسل إليه بالصالحين فكيف تجعل الصالحين أصنامًا؟ والجواب عن هذا واضح جدًا وهو أن الله ذكر أن المشركين منهم من يعبد الأصنام ومنهم من

    ردحذف
  22. يعبد الأولياء والصالحين وسوّى الله بينهم في الحكم ولم يفرّق بينهم وأنت فرّقت بينهم، في ظنك أن عبادة الأصنام لا تجوز وأن عبادة الصالحين تجوز إذا كانت بقصد التوسط، والدليل على هذا أن الله ذكر أنواعًا من المشركين فمنهم من يعبد الصالحين قال تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ}(9) في يوم القيامة الله جل وعلا يسأل الملائكة وهو أعلم سبحانه وتعالى لكن لأجل إبطال حجة هؤلاء { أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } فدل على أن منهم من يعبد الملائكة لكن الملائكة تتبرأ منهم يوم القيامة وتقول نحن ما أمرناهم بذلك ولا رضينا بذلك { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } يعني الشياطين هي التي أمرتهم بعبادة الملائكة لأن الملائكة لا تأمر إلا بعبادة الله { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }(1) فدل على أن منهم من يعبد الملائكة، والملائكة أصلح الصالحين، كما قال تعالى فيهم: { لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }(2) ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين كالمسيح ابن مريم وأمه.
    وإذا بطل التوسل بالملائكة والأنبياء ودعاؤهم من دون الله بطل التوسل بغيرهم من الصالحين ودعاؤهم من دون الله كما قال تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ }(3) لأن الواجب إخلاص العبادة لله عز وجل بجميع أنواعها من الدعاء والذبح والنذر وغير ذلك.
    فمن ذبح لغير الله ودعا غير الله كان مشركًا خارجًا من الدين.
    الشبهة الثالثة: إذا سلّم بأن الدعاء لغير الله شرك ولكنه قال أنا لا أدعو النبي r ولا غيره وهذا الذي أفعله ليس دعاءً وإنما هو طلب لشفاعة النبي r وهل تنكر شفاعة النبي r فإنك حينئذٍ تدخل معه في خصومة أخرى وشبهة أخرى وهي أنه سمى دعاء النبي r والاستغاثة به طلبًا للشفاعة ولم يُسمّه دعاءً ويقول إن النبي r أُعطي الشفاعة فأنا أطلب منه الشفاعة التي أعطيها.
    فتقول له أنا لا أنكر الشفاعة وأقر أن شفاعة النبي r حق وأنه شافع مشفّع أنا لا أنكر هذا ولكن الشفاعة لا تطلب من النبي r وهو ميت وإنما تطلب من الله لأن الشفاعة ملك لله عز وجل، قال الله تعالى: { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }(4) فجميع أنواع الشفاعة ملك لله وما دامت ملكًا لله فإنها لا تطلب إلا ممن يملكها وهو الله سبحانه وتعالى، والنبي r لا يملك الشفاعة ولا أحد يملك الشفاعة إلا بإذن الله وإنما هي ملك لله عز وجل. وأيضًا الشفاعة لا تنفع كل أحد وإنما تنفع أهل التوحيد وأنت لست من أهل التوحيد لأنك تدعو غير الله فالشفاعة لها شرطان:

    ردحذف
  23. الشرط الأول: أن تطلب من الله سبحانه وتعالى ولا تطلب من غيره.=== الشرط الثاني: أن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد لا من أهل الشرك والكفر. والدليل على الشرط الثاني قوله تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى }(5) وهو لا يرضى إلا عن أهل التوحيد ودليل الشرط الأول قوله : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } لا الملائكة ولا الرسل ولا الأولياء ولا الصالحون لا أحد يشفع عند الله إلا بعد أن يأذن الله: { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى }(1).
    فلا تطلب الشفاعة من المخلوق الميت، وإنما تطلب الشفاعة من الله فتقول اللهم شفّع فيّ نبيك، لا تطلبها من الأموات. وهذا الذي تقول إنه طلب للشفاعة هو الذي كفَّر الله به المشركين، فإن المشركين حينما لجؤوا إلى الأولياء والصالحين وإلى الملائكة وإلى الأنبياء يطلبون منهم الشفاعة كفّرهم الله بذلك فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(2) فهذا الذي تقوله هو الذي كفّر الله به المشركين وهو عبادة الأولياء والصالحين طلبًا لشفاعتهم.
    [ فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إليهم ودعاؤهم ليس بعبادة ] يعني إذا كان يعترف أن العبادة حق لله عز وجل وأنه لا يجوز عبادة غير الله ولكنه يقول الالتجاء ليس من العبادة فهو جائز.
    فإنك تقول له: الالتجاء إلى الله عبادة والالتجاء إلى غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك لأن من التجأ إلى غير الله في الشدائد فقد أشرك مع الله فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، لأنه هو الذي يُجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء وهو الملجأ سبحانه ولذا لجأ إليه النبي r حيث يقول: «لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك»(3) { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ }(4) وقوله تعالى : { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ }(5).
    [ فقل له: أنت تقر أن الله افترض عليك إخلاص العبادة لله وهو حقه عليك، فإنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبيّنها له بقولك: قال الله تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }(6).
    فإذا أعلمته بهذا فقل له: هل علمت أن هذا عبادة لله؟ فلا بد أن يقول: نعم. والدعاء مخ العبادة: فقل له: إذا أقررت أنه عبادة ودعوت الله ليلاً ونهارًا خوفًا وطمعًا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًا أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره؟ فلا بد أن يقول نعم ] أي تسأله عن معنى العبادة وما الفرق بينهما وبين الالتجاء.
    وقل له: هل العبادة واجبة أو مستحبة؟ فلا بد أن يعترف أن العبادة أمر واجب وحتم على العباد وأنها حق الله على العباد، فإذا اعترف بهذا فقل له: فسّر لي العبادة ما معناها وبيّن لي ما أنواعها، ما دمت أنك اعترفت أن العبادة لله وأنها واجبة على العبد فإنه يجب عليك أن تعرف معناها وأن تعرف أنواعها وإلا فكيف يُوجب الله عليك شيئًا وأنت تجهله ولا تعرفه، فإنه لا يعرف العبادة ولا يعرف أنواعها، وهذه آفة الجهل، ومن هنا يتعين على العباد أن يتعلموا ما أوجب الله عليهم وما فرضه الله عليهم حتى يؤدوه على وجهه الصحيح ويتجنبوا ما يُخل به وما يبطله، أما أن تعبد الله على جهل فإن هذه طريقة النصارى الضالين يعبدون الله على جهل وضلال والله أمرك أن تسأله أن يُجنبك طريقهم فتقول: { اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ }(1) فالضالون هم الذين يعبدون الله على غير علم

    ردحذف
  24. وعلى غير معرفة بالعبادة وإنما يعبدون الله بالعادات والتقاليد وما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم دون أن يرجعوا إلى ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وهذا هو سبب الضلال. والالتجاء هو طلب الحماية من أمر مخوّف لا يدفعه إلا الله. فهو نوع من أنواع العبادة، والله سبحانه يجير ولا يجار عليه ويعيذ من استعاذ به، فمن التجأ إلى ميت فقد عبده من دون الله وكذلك من أعظم أنواع العبادة الدعاء حيث قال الله تعالى: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }(2) وأنت بالتجائك إلى غير الله قد دعوت غير الله وهذا شرك.
    [ فإذا عملت بقول الله تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ }(3) وأطعت الله ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم، فقل له: فإذا نحرت لمخلوق، نبي أو جني أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلا بد أن يقر ويقول: نعم ] أي لا بد إذا تلوت عليه الآيات والأحاديث بأن الدعاء عبادة لابد أن يعترف فتقول له لو دعوت الله في الليل والنهار لكنك في بعض الأحيان تدعو غير الله هل تكون مشركًا؟ فلا بد أن يعترف ويقول إنه مشرك لأنه دعا غير الله ومن دعا غير الله فهو مشرك.
    وإذا كان من دعا غير الله ولو مرة واحدة في العمر يكون مشركًا مع أنه يدعو الله في الليل والنهار فكيف بالذي يلهج دائمًا بذلك ويقول يا حسين، يا بدوي، يا عبد القادر، يا فلان فيصدر منه الشرك كثيرًا.
    فإذا كان من ذبح لغير الله أو صلى لغير الله يكون مشركًا فكيف بمن يلجأ إلى غير الله في كشف الشدائد ألا يكون مشركًا؟ بلى لأن الباب واحد وأنواع العبادة كلها بابها واحد لا يجوز أن يخلص لله في بعضها ويشرك بالله في البعض الآخر
    (1) إبراهيم: 35-36
    (2) رواه الإمام مسلم في صحيحه 4/2023 كتاب (45) البر والصلة والآداب (39) باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى حديث رقم 137 –(2621). من حديث جندب رضي الله عنه.
    (3) التوبة: 65-66 ، انظر جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري 10/19-20 وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/351-352، وأسباب النزول للواحدي 187-188.
    (4:22(3) انظر صحيح الإمام البخاري 48/26 كتاب الجهاد والسير باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه وقال تعالى: { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } وقال قتادة الريح الحرب من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.(4) رواه الإمام البخاري في صحيحه 2/125 كتاب الزكاة باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه.
    (1) النحل:89
    (2) الفرقان:33
    (1) آل عمران:7
    (2) التدمرية ص809، وما بعدها: تحقيق الدكتور محمد بن عودة السعوي. .
    (1) رواه الإمام البخاري في صحيحه 5/165، 166 كتاب التفسير (سورة آل عمران) باب منه آيات محكمات. ورواه الإمام مسلم في صحيحه 4/2053 كتاب العلم باب (1) النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعيه، والنهي عن الاختلاف في القرآن، حديث رقم (2665) من حديث عائشة رضي الله عنها.
    (2) البقرة:27==

    ردحذف