التصوف
نزعة إنسانية، ظهرت عبر تاريخنا الإسلامي ، وهو يعبر عن شوق الروح إلى التطهر،
ورغبتها في الاستعلاء علي قيود المادة ، وسعيها الدائم إلى تحقيق مستويات عليا من
الصفاء الروحى والكمال الأخلاقى تقربا للخالق. ولم يكن اهل هذه البلاد الشنقيطية،
استثناء في هذا المجال، فقد ظهر التصوف لديهم مثلما ظهر لدى بقية
الأقطار العربية والإسلامية، بل انه كان أكثر تأثيرا في خدمة الإسلام واتساعه
تاريخيا في منطقة غرب إفريقيا. وقد دخلت الحركة الصوفية إلى موريتانيا ابتداء من
القرن 11هجري، فظهرت زوايا دينية عديدة، مارست سلطة روحية مؤثرة في المجتمع، ومن
أكثر هذه الحركات الصوفية انتشارا في بلادنا، الطريقة القادرية نسبة إلي الشيخ عبد
القادر الجيلاني المولود سنة 471هـ (1077م)، والتي اخذ بها الكثير من مشايخ
التصوف، في مقدمتهم الشيخ سيدي المختار الكنتي والشيخ سديا والشيخ ماء العينين...
والشيخ
القاضي الذي تتلمذ عليه الشيخ سيدي محمد ولد امني - موضوع بحثنا- ، بتوجيه من
الشيخ سيدي المختار الكنتي الذي كان الشيخ ولد امني يحاول الالتحاق به في منظقة
ازواد.
وبما
أن الكثير من التراث الديني والثقافي لهذا الرمز الديني المشهود له بالعلم والصلاح
والتقي قد تعرض للضياع والتلف، أو ما يزال في مخطوطات حبيسة في بعض المكتبات
الخصوصية أو لدي بعض الرواة ممن يصعب الوصول إليه، وهو ما كان له تأثير سلبي حول
عدم نشر الكثير من حياة هذا الشيخ الذي يعد من أقطاب التصوف والصلاح في موريتانيا.
لكنه وعلي الرغم من ذلك فقد اصدر قبل سنوات قليلة كل من الأستاذين الخليفة ولد
جار الله ومحمد الأمين ولد محمدو مؤلفين منفصلين عن حياة الشيخ سيدي محمد ولد
امني، مما مكن من الحصول علي معلومات أولية غاية في الأهمية في هذا المجال، فلهم
جزيل الشكر والامتنان لما بذلوه من جهد جهيد سبيلا لنفض غبار السنين والأيام عن
تراث و مآثر هذا الشيخ الجليل.
مولد الشيخ ونشأته:
ولد
الشيخ سيدي محمد ولد امني من أبوين كريمين مشهود لهما بعزة الاصل والكرم، فابوه
احمد الملقب امني ولد الطالب محمد، أما أمه فهي فريدة عقدها ونفيسة زمانها المشهود
لها بالعفة والطهر والكرم والصلاح مريم بنت أب تنتمي لبيت من بيوتات قبيلة
"تنواجيو" وذلك حوالي سنة1170 هجرية، وقد نشا الشيخ سيدي محمد يتيما في
وسط اجتماعي، يسوده العلم والورع والزهد والتقي، في كنف والدته وأخيه الأكبر من
جهة الأب الملقب ب"امني"، ويمتد نسب الشيخ سيدي محمد ولد امني إلي
إبراهيم الأموي نسبة إلي بني أمية، حسب أدق الروايات التاريخية وأكثرها تواترا لدي
المؤرخين المعاصرين في مقدمتهم المؤرخ الموريتاني الشهير المختار ولد حامدن، الذي
أكد انتسابه لقبيلة"مدلش" والتي تعني مجلس العلم، وهي القبيلة التي تمتد
أصولها لبني أمية.
حفظ
الشيخ سيدي محمد القرءان في سن مبكرة من صباه، ودرس متون النحو والفقه واللغة قبل
أن يرحل عن مناكب الحي لطلب المزيد من العلم، وقد ظهرت عليه علامات الموهبة
والنبوغ في الصغر،يقول السيد محمد الأمين ولد محمدو في دراسته التي أنجزها عن
تاريخه:" فاتصل بداية بابن لامين السملالي وخدمه طويلا حتي استكمل ما لديه من
أنواع العلوم...، وبعد ذلك ارتحل إلي آل محمد سالم ومكث عندهم سنين عديدة إلي أن ارتوي
من العلوم أصولا وفروعا ومنطقا وبيانا حتي تفقه في شتي أنواع العلوم، فعاد إلي
موطنه وباشر العبادة والتنسك والاعتكاف في الخلاء وتعلقت روحه بالشيخ سيدي
المختار الكنتي بازواد، لكنهما لم يلتقيا بشكل مباشر" ويضيف الباحث محمد
الأمين ولد محمدو:" لقد تفقه الشيخ سيد محمد في جميع العلوم حتي بلغ درجة
الاجتهاد، وقد اجتهد بالفعل في مسائل فقهية عويصة منها علي سبيل المثال مسالة
الحبس" ويلفت الأستاذ ولد محمدو الانتباه في دراسته عن الشيخ أن
الذي منعه من التأليف هو ما جسده في مقولته المشهورة:"نحن قوم شغلنا إصلاح
أفئدتنا عن التأليف وإصلاح ألسنتنا"، فالشيخ كما هو واضح قد انشغل بالمراقبة
والمشاهدة عن كل شيئ ووجد في ذلك المقام من المتعة ما جعله مشدودا إليه، لا يقدر
الالتفات إلي سواه...، ومع ذلك ومما يدل علي رسوخ قدمه في الفقه أن ارتضاه الشيخ
القاضي لتعليم أبنائه علوم الفقه ومتون العلوم الشرعية في ذلك العهد".
أخلاقه وكرمه:
عرف
الشيخ ولد امني منذ صغره بمميزات طيبة وأخلاق عالية كالجود والورع والصلاح والزهد
في الدنيا، وهي نفسها الصفات التي ذاع بها صيته في الكثير من نواحي القطر
الموريتاني، وخصوصا في المناطق التي عاش فيها أكثر مع مجموعته مابين منطقي لبراكنه
وتكانت يقول فيه الشاعر محمد عبد الله ولد أعبيد الرحمن من احدي قصائد قد مدحه بها:
ما
لغبن إلا لقوم صاحبــوه لقــــــد انقي قلوبهم من رين كل صـدا
قات
القلوب وأجساد الانام فمـــــن قد أمه قات منه القلب والجسدا
وامدح
بنيه بنات الفضـــــل إنـهـم أهـــــلا لذلك لا تدع منهم
أحدا
بنوا
على الرفع إن ناديت واحدهم فأرفعه قد نال رفعا قبل كل ندا
وثق
إذا جئتهم تبغ الهــــدى بهدى وثق إذا جئتهم تبغي الندى بندا
إلي
أن يقول:
وذا
الذي بدالي من مفاخرهم هو الذي لجميع العالمين بدا
فسأل
بأخبارهم من كان ساكنهم لا بل فسأل ذا الورى من أصدقاء
وعدا
قوم
غداة الندى الجم الغفير وإن دعوتهم للخنا قلوا إذن عددا
وكان
الشيخ ولد أمني كما يروى، يقسم أمواله والهدايا التي تهدى إليه من بعض أمراء
البلاد وغيرهم، على المحتاجين، وينسب إليه قوله ردا على بعض من اعترضوا على كثرة
بذله وعطائه للناس حتى لم يترك لنفسه شيئا:
حد
أعط جابر غبطَ حد أحكم يتنــــدم
رشيد
ألا حد أعــطَ سفيه ألا حد أحكم
وقوله:
آنَ
رزق ماه أمغطِ ذ الجابر من كافينِ
أنتم
آنَ من نعــــطِ وإتـم المول يعطينِ
وكان
حرما آمنا في ذلك العهد الذي كثرت فيه الغارات والفتن بين القبائل، فوفد إليه
الناس وأختاروا جواره لينهلوا من معين فيضه المنساب ، ثم لينشدوا الحماية والأمن
في جواره المهاب، يقول الشاعر ولد أعبيد الرحمن في قصيدته السابقة:
هم الأباة
أبات الضيم جارهـــــم لم يخش عدوان عاد إن بغى وعدا
فاليعتمد
كل واه ماله عــــــــــمد علــــــــــــيهم لم يجد
أمثالهم عـمدا
فاصحب
ألئك تسعد ان صحبتهم من صاحب السعدا اهل الهدي سعدا
ومن
توسلات الشيخ ولد أمني قوله:
توسلت
للمولى بجاه نبــــــــــيه والآل والصحب الغطارفة الغـر
ومن
سل سيفا في حنين مجاهدا وخرم أهل الشرك في ملتقى بدر
وبالطائفين
البيت شعثا وجوههم وبالصائمين القائمين الليل
بالذكر
بهم
قد دعوت الله يمحو خطيئتي ويصفح عما قد جنيت من الوزر
إلي
آخر القصيدة
مكانته العلمية
ويقول
محمد الأمين ولد محمدو في كتابه عن الشيخ:"..على الرغم أن الشيخ لم يكن الرجل
الوحيد الذي يتمتع بالعلم ورسوخ القدم في الصوفية آنذاك، إذ كان هناك علماء ومشايخ
أجلاء مثل سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم، والمختار ولد بونه والشيخ سيديا ولد
الهيبة والشيخ القاضي والشيخ ماء العينين والشيخ المصطف ولد حمادي..إلا أن هؤلاء
جميعا على الرغم مما وصلوا إليه كانوا يغبطون للشيخ سيدي محمد المكانة التي رزقه
الله إياها، من ترويض للنفس ودوام المشاهدة والعبادة وأتباع السنة، الأمر الذي جعل
سلوكه خارقا للعادة من كرامات وكشف واستجابة دعوات".
ومما
يروي عنه انه انه رفض هدايا كبيرة قدمها له المستعمر الفرنسي في بداية استكشافاته
وتمهيده لحكم البلاد، وردد بتلك المناسبة القول المعروف: تجبل القلوب علي حب من
احسن اليها، وكان الفرنسيون قد اوصلوا الي محلته كميات من المؤن الغذائية، فما كان
منه الا ان رفض استلامها.
وفاتــــــــــه:
وعن
وفاته يقول ولد محمدو في كتابه انه على إثر وصية للشيخ تم نقله إلي المكان الذي
كان يتعبد فيه، وهو على ربوة "التومية"غرب مدينة مقطع لحجار حاليا
ب7كلم، حيث تم دفنه هنالك، ومن الذين رثوا الشيخ ولد أمني، الشيخ أحمد ولد آدبه
ومحمد أحمد ولد الطلبة، وتلميذه محمد ولد بي الجكني الذي يقول في ذلك:
برمل
الغضــــى للخـود دور دوارس عفتها الذواري بعدنا والروامس
كأن
لم يذق شهد الصبا في ظلالـــــها فتو ولم يدرس بها العـلم دارس
ولم
تتهادى ضحوة في عرصـــــــاتها على مهل هيف كعــــاب أوانس
فدع
ذا وعدي القول في من تواضعت لهيبته من هام الرجال القـــلانس
تواضع
إجلالا لعزة قــــــــــــــــــدره له فوق هام العارفين الطـــنافس
تربى
بثوب الزهد طـــــــــــــفلا وإنه لثوب المعالي والمـــهابة لا
بس
يضيق
مجال القول عن حصر مدحه ولن يسع الإحصاء منه القراطس
فأقصى
أمتداح الأكرمين مذمـــــــــة لدى مدحه في حقه وخـــــسائس
يعيش
الندى ما عشت ياشيخ سالمــا ويذهب إن واراك في الرمس رامس
تزايد
في اللأوى ندى وجلالـــــــــة تزاد إذا التفت عليك المـــــــجالس
فكم
خائف جللت أمنا وعصمــــــــة وكم غشى من معروف كفيك يائس
وكم
جاهل علما كسوت وكم طوت إليك عراض البيد بزل درافــــــس.
بقلم/ سيدي محمد ولد محفوظ