بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 5 يناير 2013

رسوم لشخصيات موريتانية في القرن التاسع عشر


رسوم لشخصيات موريتانية في القرن التاسع عشر / الدكتور سيدي أحمد ولد الأمير - باحث موريتاني مقيم بقطر




JPG - 21.3 كيلوبايت
الدكتور سيدي أحمد ولد الأمير
توجد بعض الرسوم اليدوية لبعض الأعلام الموريتانيين رسمها بعض الرحالة الأوروبيين ممن جاءوا لموريتانيا في مهمات استكشافية في القرن التاسع عشر. وتوجد هذه الرسوم أو "البورتريهات" ملحقة غالبا مع النصوص التي كتبها أولئك الرحالة في كتب أو مقالات منشورة منذ ذلك التاريخ، كما يوجد بعضها محفوظا في بعض المكتبات العالمية.
في هذا المقالة سوف أعرض رسوما لأربعة أعيان موريتانيين، وللظروف التي تم فيها إنجاز هذه الرسوم، وهي منشورة كلها في كتب أو في مجلات يعود تاريخها للقرن التاسع عشر الميلادي. وكنت قد اطلعت في الخزانة العامة بالرباط بالمغرب في سنة ماضية على رسوم جميلة من هذه الرسوم وهي لبعض الشخصيات من قبيلة إدوعيش، لكن موظفي الخزانة لم يقبلوا –مع الأسف- تصويرها.
الرسم الأول: الشيخ سيدي أحمد البكاي بن الشيخ سيدي محمد الخليفة الكنتي
JPG - 75.2 كيلوبايت
الشيخ سيدي أحمد البكاي بن الشيخ سيدي محمد الخليفة الكنتي
كان الرحالة الجغرافي الألماني ""هنريش بارث"" ثالث أوروبي يصل إلى مدينة تمبكتو سنة 1853، فقد سبقه إليها الرحالة الإنجليزي "غوردون لاينغ" (Laing) الذي اغتيل في ظروف غامضة قرب تنبكتو في 30 سبتمبر 1826، وسبقه كذلك الرحالة الفرنسي رينيه كاييه ("ولد كيجه النصراني" كما يقول الموريتانيون) الذي حل بتبكتو في 20 إبريل 1828 بعد أن مر بموريتانيا وأقام أشهرا بمنطقة البراكنة.
لقي "هنريش بارث"، أو عبد الكريم كما كان يسمي نفسه تخفيا وتخوفا، حفاوة وضيافة من الشيخ سيدي أحمد البكاي بن الشيخ سيدي محمد الخليفة بن الشيخ سيدي المختار الكنتي. وكانت رحلة "هنريش بارث" بتمويل بريطاني وبرعاية مباشرة من صاحبة الجلالة أليزابيت الأولى. وقد تحدث "بارث" باستفاضة عن حفاوة الشيخ الكنتي وضيافته في كتابه "رحلات ومشاهدات في شمال ووسط إفريقيا"
(Travels and Discoveries in North and Central Africa).
وكان "بارث" أقام زمنا طويلا في الحضرة الكنتية مع الشيخ سيدي أحمد البكاي، وقد أعلن الأمير الفلاني أحمدُو بن أحمد لبو، أمير ماسنة، هدر دم الرحالة الألماني فبعث رسالة إلى الشيخ سيدي أحمد البكاي يطالبه فيها بتصفيد "بارث" بالأغلال وإرساله إلى حمدالله عاصمة إمارة ماسنة، وفي تلك الرسالة حديث عن الحكم الفقهي في التعامل مع الذمي، وفيها كذلك نوع من التهديد للشيخ سيدي أحمد البكاي الذي آوى هذا النصراني الكافر. لكنه يبدو أن الشيخ الكنتي أفقه من أن تقنعه آراء ابن أحمد لبو الفلاني، وأقوى من أن تخيفه تهديداته. فرد الشيخ البكاي مخاطبا أمير ماسنة ومتحدثا عن "بارث": "إنه جاء إلى تنبكتو –كما قلتَ- بغير استئذان ولا إذن وذلك لا يبيح لك ماله ولا سجنه، فإني أنكر عليك أمرك بسجنه وطلبك لماله؛ فإنه حرام عليك وظلم له، فإنه إنما وصل في عهد المسلمين. فإن جميع قبائل النصارى في العهد والصلح إلا الموسكو. بلغني هذا العام أنهم حاربو السلطان عبد المجيد. وعلى كل فإنك لست بإمام المسلمين، إنما إمام المسلمين مولاي عبد الرحمن أو السلطان عبد المجيد، فمولاي عبد الرحمن هو أهلها بالشريعة، والسلطان عبد المجيد هو الأكبر والأكثر في الملك. وإنما أنت أمير من حمدالله إلى تنبكتو: مسيرة خمسة أيام في الأخصاص، في منتهى أرض السودان في المغرب. وإمام المسلمين في المسلمين في أرضهم لا يجوز لك أن تنقض أو تنقص عهده وصلحه مع النصارى وقد صالحهم وعاهدهم كل من السلطانين." انتهى الاستشهاد.
وهذا النص من رسالة للشيخ سيدي أحمد البكاي وهي عندي بنصها المخطوط الواقع في ثماني عشرة صفحة فيها الكثير من التاريخ والعلم و"التكنتي"...
وكتاب "رحلات ومشاهدات في شمال ووسط إفريقيا" لهنريش "بارث" يقع في خمس مجلدات في لغتين: الإنجليزية والألمانية، وترجمت أجزاؤه الأربعة الأولى إلى الفرنسية. والطريف أن جزأه الخامس، الذي ما زال بلغتيه الأصليتين ولم يترجم للفرنسية بعدُ، فيه الكثير من تاريخ موريتانيا وأخبار قبائلها وساكنتها وتفاصيل حياتهم. فقد كان الرحالة هنريش "بارث" حريصا على تدوين كل ما يسمع من معلومات بدقة متناهية وضبط دقيق واجتهاد أكاديمي. وقد أعانه فيما جمعه من أخبارٍ عن موريتانيا وساكنتها في المجلد الخامس من كتابه أن حضرة أهل الشيخ سيدي المختار الكتني في منطقة أزواد كان فيها جميع الموريتانيين من جميع الجهات ومن جميع الأجناس، فكأن الحضرة الكنتية عبارة عن موريتانيا مصغرة فيها أهل الساحل وأهل الحجرة من تكانت وآدرار وأهل العصابة وأهل الكبلة وأهل آفطوط واهل الحوض وأهل تيرس وغير ذلك من المناطق الموريتانية التي كان أبناؤها يفدون إلى الحضرة الكنتية بأزواد ينهلون من علم الشيخ سيدي المختار وأبنائه ويتصدرون عليهم في الطريقة الصوفية القادرية.
وبعد رجوع هنريش "بارث" للندن بعثت الملكة أليزابيت الأولى هدايا ثمينة للشيخ سيدي أحمد البكاي ورسالة شكر ربما تكون هي أولى مظاهر العلاقة الدبلوماسية لبلادنا ببريطانيا. توفي الشيخ سيدي أحمد البكاي في فبراير 1866م ولم تكن دبلوماسيته مقصورة على التاج البريطاني بل هي كانت متعددة الأبعاد: فله مراسلات مع سلطان المغرب عبد الرحمن بن هشام العلوي ومع ابنه محمد بن عبد الرحمن، وله مراسلات مع السلطان العثماني عبد المجيد.
الرسم الثاني: بابه بن اعلي بن أعمر التروزي
JPG - 167.5 كيلوبايت
بابه بن اعلي بن أعمر التروزي
في كتابه ملامح سنغالية (Esquisses sénégalaises) نشر القس "بوالا" (L’abbé Boilat) رسوما متعددة في ثنايا بحثه التاريخي عرَّف أحدها بأنه رسم للزعيم التروزي بابه بن اعلي بن أعمر بن الشرقي بن اعلي شنظورة.
يبدو أن الخلاسي "داود بوالا" المولود بمدينة سان لويس (اندر) 1814، والذي كان أول مسيحي خلاسي يصل إلى رتبة القس في السنغال، كان على اتصال بالموريتانيين في هذه المدينة الشديدة الارتباط في القرن التاسع عشر بإمارة الترارزة.
وربما يكون "بوالا" قد تعرف على بابه بن اعلي بن أعمر حين كان في أوج الصراع مع ابن عمه أعمر بن المختار... وكان الفرنسيون يعادون أعمر بن المختار ويؤيدون كل الأحلاف التروزية التي نافسته سواء تعلق الأمر بالحلف الذي قاده بابه بن اعلي بن أعمر هذا، أو ذلك الذي قاده امحمد بن اعلي الكوري المطالب بعرش أبيه اعلي الكوري بن أعمربن اعلي شنظورة وعمه المختار، أو الحلف الذي تزعمه عمير بن المختار بن الشرقي بعد مصرع ابنه محمد فال بن عمير أول مغدور من أولاد أحمد بن دمان في تاريخ إمارة الترارزة وذلك سنة 1822 حين قتله إبراهيم والد بن أعمر بن المختار بميناء الجريدة قرب نواكشوط.
كان بابه بن اعلي بن أعمر سيدا جليل القدر في الترارزة، وكريما تكثر العفاة عنده حتى لا ينام ليلا ولا نهارا. فهو من أهل اعلي شنظور وفي بيتهم الإمارة وأمه بنت صمبه فال رئيس أهل عبلة. وكان بابه، قبل وفاته، مستعدا لحرب الأمير أعمر بن المختار ويشايعه أخواله أهل عبلة وأولاد دمان مشكلين حلفا قويا، وقد عينوه زعيما بعد مصرع أبنا بن اعلي حسان العتامي 1817، لكنَّ الموت عاجلت بابه عند لطيون جنوب الركيز وهو يصبو إلى أن يكون أمير الترارزة، فرأست جماعته من بعده امحمد بن اعلي الكوري. وقال النابغة الغلاوي في نظمه في العبر المعروف بأم الطريد ينعى صاحب الترجمة هذا:
وهُدَّت الأرض لموت بابا ** وفتحتْ لكل ظلم بابَا
وقد تزوج بابه المترجم له ببنت احميدها وله منها ابن لم يعقب وقد قتل قبله في الحرب بين طائفته وطائفة الأمير أعمر بن المختار.
الرسم الثالث: القاضي ابنو بن سيدنا الديماني
JPG - 172 كيلوبايت
القاضي ابنو بن سيدنا الديماني
عاش ابنو بن المصطفى بن سيدنا الديماني بين الترارزة وآدرار، فمولده بإكيدي بالترازة ومدفنه بالنيجان بآدرار. تحدث عنه المستكشف الفرنسي الرائد فينسان (Capitaine Vincent) في رحلته التي قادته نحو أطار سنة 1860. كما ذكره الفرنسي الآخر أرنيست دو بسيكاري (Ernest Psichari) في كتابه (Les voix qui crient dans le désert) عندما مر بالنيجان سنة 1909. ويبدو أن جدَّنا القاضي أبنو، الذي كان مقربا من أمير آدرار أحمد بن عيده، ومن أبنائه وأحفاده من بعده، كما تدل على ذلك الكثير من الوثائق والمراسلات الموجودة بخطه في مكتبتي الخاصة. وقد توسط القاضي ابنو لدى الأمير ابن عيده، وساعده في تلك الوساطة ابن الأمير امحمد (والد الأمير العادل أحمد بن امحمد) حتى لا يهدر دم الرحالة فينسان، وقد نوه فينسان بتلك الوساطة في رحلته واعتبر أنه لولاها لتعرض لأخطار جسيمة. وربما كان هذا التدخل من طرف ابنو لصالح فينسان سببا في أن ينجز له رسما (بورتريه)، وأن يحرص على نشره مع الرحلة ضمن الرسوم التي نشرها هناك. وقد جاء ذلك في نص الرحلة وهي بعنوان: رحلة إلى آدرار وعودة إلى سان لويس 1860. قال هارون بن الشيخ سيديا في كتابه الأخبار عند ذكر أبنو بن سيدنا ما لفظه: "والمصطفى وهو والد أبنو قاضي أحمد ولد عيده". وقد عاد أبنو إلى الترارزة بعد وفاة الأمير أحمد بن عيدة نهاية سنة 1860، وتم تعيينه بعد ذلك بزمن قاضيا لإمارة الترارزة وذلك في عهد اعلي بن محمد الحبيب الذي قضى في الإمارة ثلاث عشرة سنة وما يناهز خمسة أشهر. حيث تولى الإمارة في 20 مايو 1873م بعد ما قتل أخاه الأمير أحمد سالم بن محمد الحبيب في وقعة أيشاية إلى أن قتل أميرا في 15 أكتوبر 1886م عند احسي الغنم من أبيار تاگنانت. وخلال هذه المدة ظل أبنو قاضيا للأمير اعلي وأغلب مراسلات اعلي كانت بخط ابنو وعندي منها الكثير. وبعد مقتل اعلي رحمه الله تعالى عاد أبنو إلى آدرار وكانت صلاته وثيقة بالأميرين أحمد بن امحمد وقد أدرك ابنو بعد رجوعه الثاني إلى آدرار سنتين من إمارة أحمد بن امحمد الذي قتل سن 1888، كما بقي بآدرر طيلة العقد الزمني الذي هو مدة إمارة ابن عمه أحمد سيدي أحمد، وتدل الوثائق التي عندي أن هذين الأميرين قرباه منهما، وكان صديقا خاصا للزعيم الغيلاني إبراهيم بن مگية وزير أحمد بن امحمد الي قتل معه سنة 1891. وكان ابنو حاضرا سقوط الدار بأطار على الأمير أحمد بن سيدي أحمد سنة 1898 وقد توفي ابنو رحمه الله تعالى بعد ذلك بأشهر ودفن بالنيجان بآدرار.
الرسم الرابع: الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل
GIF - 970.3 كيلوبايت
الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل
أمضى كاميل دول (Camille DOULS) خمسة أشهر مع أولاد ادليم رهينة سنة 1886. لم يكن أولاد دليم مصدقين للرحالة "دول"، وقد نزل من قارب صيد على الشواطئ الأطلسية قرب نواذيبو، حين ادعى أنه مسلم جزائري يدعى عبد الملك. تعرض "دول" للكثير من الإكراهات البدنية والمعنوية وظل مصرا على أنه جزائري مسلم في حين كان مضيفون متأكدين أنه يخدعهم وأنه أوروبي يتظاهر بالإسلام ويدعي الانتماء إلى الجزائر. ولم يكد "دول" يخرج من محنته إلا بعد وصوله حضرة الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل الشيخ الجليل والعالم المؤلف والمجاهد الذائع الصيت. يصف الرحالة "دول" حضرة الشيخ ماء العينين وصفا دقيقا ويصف هيبة الشيخ وكثرة تلامذته وتنوعهم وكيف يعاملون شيخهم. ويبدو أن الشيخ رق لحالة الرحالة المسكين وهو مصفد في سلاسله الحديدية فطالب من أولاد ادليم فك أسره رحمة به وتصديقا لادعائه الإسلام خصوصا وأنه تشهد أمام الشيخ وحفظ الفاتحة. وقد كان الشيخ ماء العينين ملجأ الخائفين ومورد الجائعين ومرشد المخطئين ورحمة الضعفاء والمساكين.
وقد ترك "دول" رسما صور فيه الشيخ ماء العينين بحضرته عند مدخل بيته ومعه العديد من تلامذته كما يوضح البورتريه. ورحلة "دول" نص مهم وعنوانها: خمسة أشهر بين البدو البيضان في الصحراء الغربية، وهي منشورة سنة 1887 نشرتها مجلة "حول العالم" الفرنسية (Le Tour du Monde).
توضح هذا الرسوم، وهي جزء هام من تاريخنا المادي الملموس، جانبا من الاهتمام الأوروبي بموريتانيا قبيل الاستعمار. فهي نصوص داخلة في تلك المعارف والتقاليد الثقافية التي طورها الرحالة والجغرافيون والتجار الأوروبيون حين جاؤوا لهذه البلاد متخفين تحت أسماء عربية ومتظاهرين بالإسلام، وهم في حقيقة الأمر جواسيس ومخبرون. ومع إدراكنا أن دوافع هؤلاء الرحالة كانت لغايات استخبارية، وكانت تمهد للاستعمار، وتجمع المعلومات عن هذه البلاد لفهمها والاستيلاء عليها؛ إلا أن ذلك لا يمنعنا من التعاطي مع نصوصهم ودراستها والاستفادة منها في كتابة تاريخنا.

الاثنين، 17 ديسمبر 2012

من أقطاب التصوف في موريتانيا ...."الشيخ سيدي محمد ولد امني "


التصوف نزعة إنسانية، ظهرت عبر تاريخنا الإسلامي ، وهو يعبر عن شوق الروح إلى التطهر، ورغبتها في الاستعلاء علي قيود المادة ، وسعيها الدائم إلى تحقيق مستويات عليا من الصفاء الروحى والكمال الأخلاقى تقربا للخالق. ولم يكن اهل هذه البلاد الشنقيطية، استثناء في هذا المجال، فقد ظهر التصوف لديهم مثلما ظهر لدى بقية الأقطار العربية والإسلامية، بل انه كان أكثر تأثيرا في خدمة الإسلام واتساعه تاريخيا في منطقة غرب إفريقيا. وقد دخلت الحركة الصوفية إلى موريتانيا ابتداء من القرن 11هجري، فظهرت زوايا دينية عديدة، مارست سلطة روحية مؤثرة في المجتمع، ومن أكثر هذه الحركات الصوفية انتشارا في بلادنا، الطريقة القادرية نسبة إلي الشيخ عبد القادر الجيلاني المولود سنة 471هـ (1077م)، والتي اخذ بها الكثير من مشايخ التصوف، في مقدمتهم الشيخ سيدي المختار الكنتي والشيخ سديا والشيخ ماء العينين...

والشيخ القاضي الذي تتلمذ عليه الشيخ سيدي محمد ولد امني - موضوع بحثنا- ، بتوجيه من الشيخ سيدي المختار الكنتي الذي كان الشيخ ولد امني يحاول الالتحاق به في منظقة ازواد.
وبما أن الكثير من التراث الديني والثقافي لهذا الرمز الديني المشهود له بالعلم والصلاح والتقي قد تعرض للضياع والتلف، أو ما يزال في مخطوطات حبيسة في بعض المكتبات الخصوصية أو لدي بعض الرواة ممن يصعب الوصول إليه، وهو ما كان له تأثير سلبي حول عدم نشر الكثير من حياة هذا الشيخ الذي يعد من أقطاب التصوف والصلاح في موريتانيا. لكنه وعلي الرغم من ذلك فقد اصدر قبل سنوات قليلة كل من الأستاذين الخليفة ولد جار الله ومحمد الأمين ولد محمدو مؤلفين منفصلين عن حياة الشيخ سيدي محمد ولد امني، مما مكن من الحصول علي معلومات أولية غاية في الأهمية في هذا المجال، فلهم جزيل الشكر والامتنان لما بذلوه من جهد جهيد سبيلا لنفض غبار السنين والأيام عن تراث و مآثر هذا الشيخ الجليل.
مولد الشيخ ونشأته:
ولد الشيخ سيدي محمد ولد امني من أبوين كريمين مشهود لهما بعزة الاصل والكرم، فابوه احمد الملقب امني ولد الطالب محمد، أما أمه فهي فريدة عقدها ونفيسة زمانها المشهود لها بالعفة والطهر والكرم والصلاح مريم بنت أب تنتمي لبيت من بيوتات قبيلة "تنواجيو" وذلك حوالي سنة1170 هجرية، وقد نشا الشيخ سيدي محمد يتيما في وسط اجتماعي، يسوده العلم والورع والزهد والتقي، في كنف والدته وأخيه الأكبر من جهة الأب الملقب ب"امني"، ويمتد نسب الشيخ سيدي محمد ولد امني إلي إبراهيم الأموي نسبة إلي بني أمية، حسب أدق الروايات التاريخية وأكثرها تواترا لدي المؤرخين المعاصرين في مقدمتهم المؤرخ الموريتاني الشهير المختار ولد حامدن، الذي أكد انتسابه لقبيلة"مدلش" والتي تعني مجلس العلم، وهي القبيلة التي تمتد أصولها لبني أمية.
حفظ الشيخ سيدي محمد القرءان في سن مبكرة من صباه، ودرس متون النحو والفقه واللغة قبل أن يرحل عن مناكب الحي لطلب المزيد من العلم، وقد ظهرت عليه علامات الموهبة والنبوغ في الصغر،يقول السيد محمد الأمين ولد محمدو في دراسته التي أنجزها عن تاريخه:" فاتصل بداية بابن لامين السملالي وخدمه طويلا حتي استكمل ما لديه من أنواع العلوم...، وبعد ذلك ارتحل إلي آل محمد سالم ومكث عندهم سنين عديدة إلي أن ارتوي من العلوم أصولا وفروعا ومنطقا وبيانا حتي تفقه في شتي أنواع العلوم، فعاد إلي موطنه وباشر العبادة والتنسك والاعتكاف في الخلاء وتعلقت روحه بالشيخ سيدي المختار الكنتي بازواد، لكنهما لم يلتقيا بشكل مباشر" ويضيف الباحث محمد الأمين ولد محمدو:" لقد تفقه الشيخ سيد محمد في جميع العلوم حتي بلغ درجة الاجتهاد، وقد اجتهد بالفعل في مسائل فقهية عويصة منها علي سبيل المثال مسالة الحبس" ويلفت الأستاذ ولد محمدو الانتباه في دراسته عن الشيخ أن الذي منعه من التأليف هو ما جسده في مقولته المشهورة:"نحن قوم شغلنا إصلاح أفئدتنا عن التأليف وإصلاح ألسنتنا"، فالشيخ كما هو واضح قد انشغل بالمراقبة والمشاهدة عن كل شيئ ووجد في ذلك المقام من المتعة ما جعله مشدودا إليه، لا يقدر الالتفات إلي سواه...، ومع ذلك ومما يدل علي رسوخ قدمه في الفقه أن ارتضاه الشيخ القاضي لتعليم أبنائه علوم الفقه ومتون العلوم الشرعية في ذلك العهد".
أخلاقه وكرمه:
عرف الشيخ ولد امني منذ صغره بمميزات طيبة وأخلاق عالية كالجود والورع والصلاح والزهد في الدنيا، وهي نفسها الصفات التي ذاع بها صيته في الكثير من نواحي القطر الموريتاني، وخصوصا في المناطق التي عاش فيها أكثر مع مجموعته مابين منطقي لبراكنه وتكانت يقول فيه الشاعر محمد عبد الله ولد أعبيد الرحمن من احدي قصائد قد مدحه بها:
ما لغبن إلا لقوم صاحبــوه لقــــــد    انقي قلوبهم من رين كل صـدا
قات القلوب وأجساد الانام فمـــــن    قد أمه قات منه القلب والجسدا
وامدح بنيه بنات الفضـــــل إنـهـم    أهـــــلا لذلك لا تدع منهم أحدا
بنوا على الرفع إن ناديت واحدهم    فأرفعه قد نال رفعا قبل كل ندا
وثق إذا جئتهم تبغ الهــــدى بهدى    وثق إذا جئتهم تبغي الندى بندا
إلي أن يقول:
وذا الذي بدالي من مفاخرهم      هو الذي لجميع العالمين بدا
فسأل بأخبارهم من كان ساكنهم   لا بل فسأل ذا الورى من أصدقاء وعدا
قوم غداة الندى الجم الغفير وإن  دعوتهم للخنا قلوا إذن عددا
وكان الشيخ ولد أمني كما يروى، يقسم أمواله والهدايا التي تهدى إليه من بعض أمراء البلاد وغيرهم، على المحتاجين، وينسب إليه قوله ردا على بعض من اعترضوا على كثرة بذله وعطائه للناس حتى لم يترك لنفسه شيئا:
حد أعط جابر غبطَ      حد أحكم يتنــــدم
رشيد ألا حد أعــطَ      سفيه ألا حد أحكم
وقوله:
آنَ رزق ماه أمغطِ     ذ الجابر من كافينِ
أنتم آنَ من نعــــطِ     وإتـم المول يعطينِ

وكان حرما آمنا في ذلك العهد الذي كثرت فيه الغارات والفتن بين القبائل، فوفد إليه الناس وأختاروا جواره لينهلوا من معين فيضه المنساب ، ثم لينشدوا الحماية والأمن في جواره المهاب، يقول الشاعر ولد أعبيد الرحمن في قصيدته السابقة:

هم الأباة أبات الضيم جارهـــــم       لم يخش عدوان عاد إن بغى وعدا
فاليعتمد كل واه ماله عــــــــــمد      علــــــــــــيهم لم يجد أمثالهم عـمدا
فاصحب ألئك تسعد ان صحبتهم      من صاحب السعدا اهل الهدي سعدا

ومن توسلات الشيخ ولد أمني قوله:
توسلت للمولى بجاه نبــــــــــيه       والآل والصحب الغطارفة الغـر
ومن سل سيفا في حنين مجاهدا      وخرم أهل الشرك في ملتقى بدر
وبالطائفين البيت شعثا وجوههم      وبالصائمين القائمين الليل بالذكر
بهم قد دعوت الله يمحو خطيئتي     ويصفح عما قد جنيت من الوزر
إلي آخر القصيدة

مكانته العلمية
ويقول محمد الأمين ولد محمدو في كتابه عن الشيخ:"..على الرغم أن الشيخ لم يكن الرجل الوحيد الذي يتمتع بالعلم ورسوخ القدم في الصوفية آنذاك، إذ كان هناك علماء ومشايخ أجلاء مثل سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم، والمختار ولد بونه والشيخ سيديا ولد الهيبة والشيخ القاضي والشيخ ماء العينين والشيخ المصطف ولد حمادي..إلا أن هؤلاء جميعا على الرغم مما وصلوا إليه كانوا يغبطون للشيخ سيدي محمد المكانة التي رزقه الله إياها، من ترويض للنفس ودوام المشاهدة والعبادة وأتباع السنة، الأمر الذي جعل سلوكه خارقا للعادة من كرامات وكشف واستجابة دعوات".
ومما يروي عنه انه انه رفض هدايا كبيرة قدمها له المستعمر الفرنسي في بداية استكشافاته وتمهيده لحكم البلاد، وردد بتلك المناسبة القول المعروف: تجبل القلوب علي حب من احسن اليها، وكان الفرنسيون قد اوصلوا الي محلته كميات من المؤن الغذائية، فما كان منه الا ان رفض استلامها.
وفاتــــــــــه:
وعن وفاته يقول ولد محمدو في كتابه انه على إثر وصية للشيخ تم نقله إلي المكان الذي كان يتعبد فيه، وهو على ربوة "التومية"غرب مدينة مقطع لحجار حاليا ب7كلم، حيث تم دفنه هنالك، ومن الذين رثوا الشيخ ولد أمني، الشيخ أحمد ولد آدبه ومحمد أحمد ولد الطلبة، وتلميذه محمد ولد بي الجكني الذي يقول في ذلك:

برمل الغضــــى للخـود دور دوارس       عفتها الذواري بعدنا والروامس
كأن لم يذق شهد الصبا في ظلالـــــها       فتو ولم يدرس بها العـلم دارس
ولم تتهادى ضحوة في عرصـــــــاتها      على مهل هيف كعــــاب أوانس
فدع ذا وعدي القول في من تواضعت      لهيبته من هام الرجال القـــلانس
تواضع إجلالا لعزة قــــــــــــــــــدره       له فوق هام العارفين الطـــنافس
تربى بثوب الزهد طـــــــــــــفلا وإنه       لثوب المعالي والمـــهابة لا بس
يضيق مجال القول عن حصر مدحه        ولن يسع الإحصاء منه القراطس
فأقصى أمتداح الأكرمين مذمـــــــــة        لدى مدحه في حقه وخـــــسائس
يعيش الندى ما عشت ياشيخ سالمــا         ويذهب إن واراك في الرمس رامس
تزايد في اللأوى ندى وجلالـــــــــة         تزاد إذا التفت عليك المـــــــجالس
فكم خائف جللت أمنا وعصمــــــــة        وكم غشى من معروف كفيك يائس
وكم جاهل علما كسوت وكم طوت         إليك عراض البيد بزل درافــــــس.
بقلم/ سيدي محمد ولد محفوظ